أخلت وزارة الصحة بمعية السلطات المختصة، أول أمس الاثنين، محيط ضريح بويا عمر، قرب مدينة السراغنة، من مئات المرضى الذي ظلوا لسنوات أسرى في يد أكثر من 50 محتضنا. في هذا الربورتاج تنقلكم «المساء» إلى أقوى لحظات «مبادرة الكرامة»، وتقربكم من قصص إنسانية لمرضى تحولت حياتهم إلى جحيم. «أريد وضع شكاية ضد عمر…بغيتكوم تشدوه»، يصرخ حسن، نزيل في أحد «الأكواخ» المحتضنة للمرضى النفسيين بضريح بويا عمر، وهو يطالب عناصر الدرك الملكي بتوقيف الشخص الذي كان يحتضنه، بعدما عرضه لأقسى أنواع التعذيب. حسن ليس إلا واحدا من نزلاء ضريح بويا عمر، الذي كان أول أمس الاثنين على موعد مع إعطاء الانطلاقة الرسمية لمبادرة الكرامة. عشرات المرضى النفسيين تدفقوا مع إشراقة الصباح، على الخيمة المخصصة لتسجيل النزلاء الذين سيتم نقلهم نحو مؤسسات الصحة العقلية. حالة التوجس والقلق كانت بادية على وجوه أبناء القرية، الذين تحلقوا في تجمعات صغيرة يناقشون مستجدا لم يكن في الحسبان. مبادرة وزير الصحة في مواجهة لوبيات قوية ظلت تتاجر لعقود في معاناة المرضى أثارت مواقف متباينة بين من وصفوا الخطوة بالانتصار الكبير في معركة تحرير الضريح ومحيطه ممن يتحكمون في النزلاء وأسرهم، فيما لم تتردد بعض العائلات في الاحتجاج على خطوة الوزير واعتبارها بداية لمأساة جديدة. دموع الانعتاق داخل الخيمة المخصصة لاستقبال المرضى الذين جاؤوا رفقة عائلاتهم، كانت مشاعر الفرح تعتلي ملامح نزلاء الضريح، بعدما تحرر أغلبهم من أغلال نحتت علامات البؤس على أجسادهم النحيفة، فيما لم يتخلص آخرون من السلاسل الحديدية حتى في آخر اللحظات التي سبقت مغادرة المكان. بجانب المركز الصحي، جلس عدد من النزلاء الذين حملوا حقائبهم استعدادا للرحيل، وهم يتابعون حركة المسؤولين الذين جاؤوا بعد سنوات من «غض الطرف» لإنقاذهم من جحيم العبودية. «غادي يديونا…غادي يديونا»، رددها أحد المرضى وهو يقبل رأس والدته التي لم تخف إحساسها بالذنب عندما جاءت بابنها قبل سنوات في رحلة «استشفاء» استغرقت أكثر من عشر سنوات دون أن تكلل بالنجاح. حسب مصادر مشاركة في العملية، فقد تم إلى حدود أول أمس الاثنين نقل حوالي 300 مريض إلى المستشفيات التي تم اعتمادها لهذا الغرض، في حين غادر عدد كبير من المرضى المكان طواعية، بعدما كانت الوزارة قد أحصت أكثر من 800 نزيل. جولة بين الدور الطينية التي كان يقطن بداخلها معتقلو «بويا عمر» تكشف عن إخلاء المحتضنين للمكان، وسط اتهامات ثقيلة بإخضاع المرضى لحصص من التعذيب والإهمال. مصدر مطلع أكد أنه عقب انتهاء عملية «الكرامة»، ينتظر أن تقود السلطات حملة تمشيطية على مستوى مختلف الأماكن التي كانت مخصصة للاحتضان. «بويا عمر بالمنطق السابق انتهى..هذا عهد جديد ولن نسمح بأي معاناة جديدة»، يقول أحد مسؤولي وزارة الصحة ل»المساء». بيد أن الفرحة التي اعتلت وجوه «المفرج» عنهم من جحيم بويا عمر اختلطت بمخاوف الأسر من مغبة مطالبتهم بإخراج أبنائهم من المستشفيات التي وجهوا إليها بعد فترة وجيزة. مخاوف سعى وزير الصحة، حسين الوردي، إلى تبديدها بالتأكيد على أن الوزارة ستتعامل بمرونة كبيرة مع هذا الموضوع، إلى أن يخضع المريض للعلاج. ثم خاطب العائلات والنزلاء قائلا: «المرض النفسي هو مرض عاد وله علاجه فلا تقلقوا». «تعذيب» وتعسفات لعل أكثر ما يتردد على لسان عدد من السكان المحليين وأيضا المرضى الذين كان بمقدورهم التعبير عن الآلام التي تحملتها أجسادهم المنهكة، هو عمليات التعذيب التي يتعرضون لها من طرف بعض المحتضنين، حتى إن أحدهم فقد البصر بعد اعتداء تعرض له وهو مكبل اليدين والرجلين. اسمه ز.محمد، نزيل قادم من مدينة طنجة، استقر به المقام في بويا عمر منذ 6 سنوات. التقينا الرجل داخل الضريح، حيث سرد ل»المساء» قصة محتضنه الذي كان يكبله ويمنع عنه المال الذي كانت تبعث به أسرته. يروي محمد، وقد امتلأت عيناه بدموع الحسرة على ضياع سنوات من عمره في هذا المكان: «كنت أطلب منه النقود التي كان يبعث بها أفراد الأسرة، لكن الجواب كان دائما هو الضرب والتكبيل». محمد كشف ل«المساء» وضعه عددا من الشكايات لدى السلطات القضائية، خاصة أن اعتداء تعرض له من طرف هذا الشخص تسبب في فقدان البصر على مستوى عينه اليسرى. هو اليوم لا يطالب بأكثر من إنزال العقوبة اللازمة على محتضنه الذي تلدد في إخضاعه لصنوف الضرب والسب. حالة الإهمال كانت بادية على جل المرضى، رغم أن عائلاتهم ظلت تضخ الملايين بشكل شهري للاعتناء بأبنائها من طرف المحتضنين. داخل المركز الصحي الاجتماعي، انهمكت الأطر الطبية وشبه الطبية في فحص المرضى لمعرفة ما إذا كانوا يعانون من بعض الأمراض، والنتيجة حسب بعض من تحدثنا إليهم هو أن أغلب النزلاء يعانون من آلام في المعدة والأمعاء بسبب سوء التغذية. عبد السلام، والد نزيل في ضريح بويا عمر، كان بدوره اليوم على موعد مع مبادرة الكرامة. يروي الرجل، الذي تجاوز سنه ال65، عن معاناته في ضمان الاعتناء بابنه في ظروف جيدة. يقول بنبرة ملؤها الغضب: «تكاليف احتضان ابني تتجاوز 2000 درهم شهريا، لكن وضعه مزري جدا». في هذا المكان التقينا بالفقراء والميسورين، كما صادفنا الأميين والمثقفين. بويا عمر جمع في هذا اليوم عائلات أضحت مطالبة بوضع يدها في يد وزارة الصحة لمعالجة أبنائها وإعادة إدماجهم في المجتمع، عوض تركهم ضحايا لتعسفات حولت حياتهم إلى جحيم حقيقي. عبد الرحيم واعمر، رئيس المجلس الإقليمي لقلعة السراغنة، طالب في حديث ل»المساء» بضرورة فتح تحقيق في الممارسات التي كان يعرفها محيط ضريح بويا عمر. وزاد قائلا:»هناك لوبيات اغتنت من هذه الممارسات، والحال أن ضريح بويا عمر بريء، فهناك أشخاص اغتنوا دون الضرائب، حيث كانوا يكبلون المرضى بالسلاسل لسنوات». مآس إنسانية المخدرات والسحر والشعوذة، أكثر ما يتردد على لسان المرضى وعائلاتهم. عدد كبير ممن التقيناهم في بويا عمر ربطوا الأمراض النفسية التي يعاني منها نزلاء الضريح بما أسماه بعضهم ب»التوكال»، فيما ربطها آخرون باستهلاك «الحشيش» «والكوكايين». «أنا سبابي هو واحد البنت وكلاتني». هكذا كان يجيب حسن كل من حاول أن ينبش في خلفيات إصابته بالمرض الذي ألم به. حسن حاصل على البكالوريا في العلوم الرياضية، وتابع دراسته في مجال الطيران العسكري، قبل أن تنقلب حياته رأسا على عقب. قبيل وصول وزير الصحة إلى الخيمة، ظل حسن يتردد على بعض أفراد القوات العمومية، وهو يطالب باعتقال الشخص الذي كان يحتضنه. «شوف يدي كيف ولات»، يصرخ حسن وهو يشير إلى آثار التكبيل التي نحتت على يديه قصة اعتقال مؤلم في محيط ولي صالح. هذا الضريح الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، ويبلغ عدد زواره حوالي 30 ألف شخص في السنة، منهم 15 ألف يزورونه خلال عيد المولد النبوي، تحول أيضا إلى مكان لممارسة بعض طقوس الشعوذة التي يتبرأ منها «الشرفاء». حالة الاستنفار التي كان عليها محيط الضريح لم تمنع عائشة من اصطحاب أختها إلى غرفة مظلمة لإخضاعها لبعض الطقوس تلبية لمعتقدات دفينة. «أجي ذبح هاد الدجاجة راه أنا للي عارفة مرض أختي»، رددتها عائشة وهي تخاطب أحد «الشرفاء». بيد أن الأخير رفض وطلب منها اصطحاب قريبتها إلى المستشفى. الحالة الخطيرة التي كانت عليها أخت عائشة، والتي لم تعد تقوى على الحركة منذ أيام بعدما اكتسحت بقع حمراء مختلف أنحاء جسدها، لا تجد تفسيرها لدى عائشة إلا في عالم الروحانيات، بل إنها لم تأبه لتهديد بعض الحاضرين بطلب تدخل السلطات لإخراجها بالقوة. «سبابها هوما الناس للي فيها»، تقول عائشة رافضة فكرة علاجها في المستشفى. انهيار اقتصادي؟ من أبرز العراقيل التي اصطدم بها وزير الصحة وهو يقود معركة إغلاق دور الاحتضان المحيطة بضريح بويا عمر، هو «اللوبيات» التي استفادت لعشرات السنين، وحولت النزلاء إلى مصدر إثراء. هنا يؤدي النزلاء ما معدله 786 درهم شهريا كمصاريف للإيواء. عدد منهم يشتكون من الحيف الذي يطالهم من طرف بعض المحتضنين، الذين يرفضون مدهم بما تأتي به أسرهم من تغذية ونقود. الكلفة السنوية للإيواء تناهز 800 مليون سنتيم سنويا. «لقد قطعوا مصدر رزقنا، أين سنذهب؟»..جملة ترددت بين ألسن عدد من المحتضنين، الذين وجدوا أنفسهم مطالبين بتحرير النزلاء أو مواجهة إجراءات قانونية قد تصل حد المتابعة القضائية في حال رفض تسليم النزلاء. بيد أن بعض التجار الذين التقينا بهم اعتبروا أن وجود هذا العدد المهم من النزلاء لا يعني بالضرورة خلق رواج تجاري كبير. يقول عبد الرحمان: «هنا تنشط مافيا خطيرة، فعوض أن يترك للنزيل الحرية لاقتناء ما يريد، فإنه قد يشتري نصف لتر من الحليب ب3,5 درهم ويبيعه بضعف قيمته». وزير الصحة، الذي يتهمه بعض المستفيدين من «ريع» بويا عمر بالإساءة للمنطقة وقطع مورد رزقهم، أكد من جانبه أنه سيتم العمل مع السكان المحليين للوصول إلى حل، مع إنشاء وحدة اجتماعية للراغبين في زيارة الضريح. رحيل نزلاء بويا عمر عن المكان لا يعني إغلاق مقام «الولي الصالح». الضريح سيستمر في استقبال من يرغبون في زيارته، مع منع أي محاولة جديدة لعودة «زمن الاعتقالات» بالسلاسل الحديدية، أو احتضان مرضى جدد. وإذا كانت مبادرة وزير الصحة، التي جاءت بدعم قوي من السلطات المختصة، قد مكنت من تحرير المئات من النزلاء، فإن هناك حاجة ملحة لمبادرة جديدة لإنقاذ المرضى النفسيين المتشردين في شوارع المملكة.
4 مليار سنتيم لتحرير «أسرى» بويا عمر تنفيذ عملية «الكرامة» تطلب جهودا مكثفة استغرقت أكثر من سنة. وزارة الصحة اشتغلت خلال هذه المدة على توسيع الطاقة الاستيعابية لمستشفيات الطب النفسي، وإحداث مصالح استشفائية مندمجة جديدة، تحسبا لاستقبال الأعداد الكبيرة من المرضى. وتم في هذا السياق توظيف 34 طبيبا و122 ممرضا متخصصين في الطب النفسي، وتخصيص غلاف مالي قدره 40 مليون درهم لاقتناء أدوية الطب النفسي، مع تخصيص أكثر من 60 سيارة إسعاف لنقل المرضى من أماكن إقامتهم بنواحي الضريح إلى المستشفيات والمصالح الصحية الواقعة في الجهات والأقاليم التي يتحدرون منها. العملية جاءت بعد الدراسة التي قامت بها الوزارة، والتي خلصت إلى وجود أكثر من 800 نزيل، يعانون من اضطرابات نفسية، منهم 70 في المائة لا يتلقون أي علاج. بل إن جلهم تظهر عليهم علامات سوء المعاملة والتعنيف. كما أشارت هذه الدراسة إلى أن المرضى يعانون من سوء التغذية، وأمراض عضوية متنقلة وأن ظروف إقامتهم وعيشهم جد مزرية، وهو ما اعتبرته الوزارة انتهاكا صارخا لحقوق هؤلاء المرضى في الولوج إلى العلاج، وتنافيا مع مبادئ الدستور والالتزامات الدولية للمغرب. وتشكل الفئة العمرية بين 30 و40 سنة حوالي 60 في المائة من نزلاء الضريح، في حين تقدر نسبة الأميين منهم ب12 في المائة، والذين يتوفرون على مستوى جامعي ب5 في المائة. ومن أبرز الخلاصات التي جاءت بها الدراسة هو أن 70 في المائة من النزلاء لا يتلقون أي علاج أثناء إقامتهم، بينما 24 في المائة لا يلتقون بأسرهم. أكثر من ذلك ف19 في المائة من المرضى تظهر عليهم علامات سوء المعاملة، وهو الأمر الذي يتردد على ألسن عدد ممن التقيناهم.