ثمة تحول حصل في حياة الراحل فريد الأنصاري، ويرتبط باللحظة التي تعرف فيها على أفكار بديع الزمان سعيد النورسي، وكان ذلك عبر فتح الله كولن، زعيم الحركة التي تعرف باسمه في تركيا وتشتغل في المجال الاجتماعي بعيدا عن السياسة، وتحدد كواحد من أهدافها إعادة تركيا إلى دورها التاريخي كزعيمة لأمةٍ أيام الإمبراطورية العثمانية. التقى الأنصاري بكولن في المغرب، وكانت تلك بداية علاقته بتركيا وبفكر النورسي من خلال أتباعه الكثر المتفرقين داخل تركيا وخارجها، ثم بدأ ينشر بعض المقالات والقصائد في مجلة «حراء» التي تصدرها حركة كولن، وهي أول مجلة عربية تصدر في تركيا منذ سقوط الخلافة العثمانية، واختيار اسمها لديه أكثر من دلالة. سيكون الأنصاري بالتأكيد أول مغربي نقل أفكار النورسي إلى المغرب، في مسعى إلى تحويل رسالته إلى مضمون فكري داخله. ومن هنا جاء تحوله الفكري، فحاول تنزيل منهجية النورسي في «رسائل النور»، وهي عبارة عن تأملات في القرآن والذات والكون أقرب إلى كتابات المتصوفة، لتأسيس مشروع «مجالس القرآن»، وهو المشروع الذي خصص له الأنصاري عدة كتب تقترب كثيرا من الطابع الذي يسم كتابات النورسي، عبارة عن تأملات وخواطر في القرآن والصلاة والنفس الإنسانية والموت. ولعل روايته الثانية والأخيرة «آخر الفرسان» التي نشرها عام 2006 انعكاس واضح لطبيعة التحول الفكري والروحي الذي حصل للأنصاري لدى التقائه بأفكار النورسي. تشكل الرواية في حقيقتها إعادة كتابة -أدبية طبعا - لسيرة النورسي، لكن خلف هذه السيرة الغيرية هناك سيرة ذاتية للكاتب نفسه. فهذا الأخير يحضر فيها أكثر من مرة، سواء ككاتب للنص أو كمخاطب ومريد للشيخ النورسي، أو كبطل خفي في الرواية يسعى وراء الحقيقة، التي وجدها أخيرا لدى النورسي. ويعلن الأنصاري، منذ الصفحة الأولى، عن هويته، فقد أهدى روايته إلى فتح الله كولن «وارث السر»، أي سر النورسي، كما وجه تشكراته لطلاب النور في إسطانبول الذين قدموا له المساعدة في إنجاز عمله، وطلاب النور هؤلاء ليسوا سوى أتباع النورسي، الذين اتخذوا اسما لهم من «رسائل النور». تبدأ الرواية بمنظر عام لإسطانبول، ثم شبح النورسي وهو يمشي في الظلام، قبل أن يقدم إلى المحكمة العسكرية في اليوم الموالي، وتنتهي بصرخة الكاتب «الرفقة يا نعم الأمير أميرها»، صرخة موجهة إلى النورسي من البطل الذي يكتشف، بعد طول مصاحبة مع بديع الزمان، للاقتناع بضرورة السير وراءه. ويصف الكاتب في مدخل الرواية فتح الله كولن، الذي كان مفتاح معرفته للنورسي، ولقاءه الأول به في الرباط، ثم لقاءه الثاني به في مدينة وجدة، قبل التوجه إلى تركيا للبحث عن النورسي «قلبي يحدثني أنه ما يزال هناك، رغم أنه قيل لي: لقد مات منذ سنة 1960». هكذا يتحدث الأنصاري عن النورسي، ليقول إن هذا الأخير لم يكن مجرد شخص عاش وانقضى الأمر، بل رسالة موجودة باستمرار بسبب ما تركه من إرث. فقد تحول النورسي إلى أسطورة لدى الأتراك، وبقدر ما أرادت الحكومة التركية إخفاء معالمه بعد موته ونبش قبره ونقل جثمانه إلى جهة مجهولة بعد أربعة أشهر من وفاته حتى لا يتحول إلى مزار ولا يكون له أتباع ومريدون، بقدر ما زادت بذلك في رفع شخصيته إلى أسطورة حية في ضمير الأتراك. هذه الأسطورية هي ما عكسه الراحل الأنصاري في روايته، فعندما هبط في أورفة، مدينة النورسي، لأول مرة، وسأل أحد الناس «أين أجد بديع الزمان؟» فوجئ المسؤول، لأن لا أحد في تركيا يعرف مكانا للنورسي، فسأله الرجل عن بلده، فرد الأنصاري: «من بلاد المغرب... جئت أطلب حكمة النور». لقد أرخ الأنصاري في روايته للنورسي، وتحدث عن «مكابدات بديع الزمان» وعن سعيد القديم وسعيد الجديد، لكن الراوية تحمل أيضا صورة للأنصاري نفسه، صورة مكابداته وبحثه الدؤوب، وصورة فريد الجديد وفريد القديم.