على هامش «الانتصار الباهر» الذي حصده الرئيس التونسي مؤخرا، والذي سمح فيه لنفسه بولاية خامسة، نود أن نطرق الباب ذاته الذي طرقناه في مقال سابق بعنوان «درس أنواري لمغرب عربي غير متنور»، في محاولة لفهم الظاهرة السياسية في مغرب عربي أعطى الدروس في كل مساوئ السياسة، فالانقلابات وتزوير الانتخابات الرئاسية والتشريعية وتعطيل الدساتير ومنع الأحزاب والتعددية السياسية والقضاء على المعارضة.. كل هذه الظواهر كانت ماركة مسجلة في كل دول العالم النامي، واليوم أضحت ماركة مغاربية تنافس نظيرتها في أرض الكنانة والشام، ويشاء مكر التاريخ أن يكون التميز عربيا بالاستبداد ومرادفاته.. فمن الناحية السوسيولوجية، تعتبر الظاهرة السياسية ظاهرة إنسانية محضة، تتدخل في تحديد طبيعتها شروط بشرية معقدة، وهي بذلك لا تخلو من قهرية واستقلالية وموضوعية على أفرادها، شأنها في ذلك شأن باقي الظواهر الاجتماعية، فإذا كانت هذه الحقيقة بديهية في علم الاجتماع السياسي اليوم، فإن ما يجري في المغرب العربي يبقى الدليل الواضح على أن المشهد السياسي وقواعد الممارسة السياسية، بكل جزئياتها، تختزن قوانين موضوعية وتاريخية أكبر من شخوص اللاعبين في هذا المشهد، بمعنى أن التحليل العقلاني لطبيعة الفعل السياسي في الدولة المغاربية لا ينبغي أن يختصر نقده وتشريحه ومساءلته في أشخاص الساسة العينيين مهما كانت سطوتهم ونفوذهم، فهم مجرد أدوات لشروط موضوعية أكبر منهم. فليس بوتفليقة الجزائر ولا انقلابيو موريتانيا ولا بنعلي الخضراء ولا عقيد ليبيا.. وغيرهم من «الشيوخ الراجعين إلى صباهم»، ليسوا إطلاقا مفاتيح لفهم طبيعة الفعل السياسي العربي، بل إن البنية الاجتماعية بكاملها هي ما يسير الأشخاص السابقين خلف الستار، فغدا عندما سيتدخل ملك الموت لتخليص شعوب هذه الأنظمة السابقة من عرائس التاريخ هذه، فإن البنية ذاتها ستنتج عرائس أخرى، لتبقى الحالة السياسية كما يحددها «الآن التاريخي» عصية على التغيير، فالتاريخ أكبر بكثير من الأشخاص، وإلا فأي فرق بين انقلابيي اليوم في موريتانيا وانقلابيي البارحة، وأي فرق بين بوتفليقة واليمين زروال، وأي فرق بين بنعلي وبورقيبة، وأي فرق بين السادات وحسني مبارك، وأي فرق بين الأسد وشبله؟ إنه مكر التاريخ.. وهذا المدخل الهيغلي لفلسفة التاريخ سيكون هو نهجنا في تحليل حالة الفوضى التي تشهدها «بلاد شنقيط» منذ سنوات، فضمانات عدم تكرار ما اقترفه الجنرال «ولد عبد العزيز» غائبة تماما، صحيح أن هذه الحالة السياسية لا تشذ، في المنطق المصرح به سابقا، عما يجري في مدن الملح الأخرى، غير أن للحالة الموريتانية خصوصية من حيث الشرط الموضوعي لاستمرار إشكالية السلطة رغم كل مظاهر السلم المخيمة حاليا.. الآن هنا أو موريتانيا الفوضى السياسية مرة أخرى، من هنا مر كل الانقلابيين، وغدا سيولد آخرون،... أما الرعايا فيتتلمذون على ثعالب العسكر قدَر الانتظار، وتصديق من هب ودب منهم وأعلن نفسه أميرا جديدا على الديار... ولا حل في الحل، فبنية هذه الدولة-القبيلة فرضت أن يكون التداول على السلطة السياسية بالطريقة ذاتها التي تتم بها «الفتوة» في قبائل الأعراب، ليكون الدرس الذي يعلمنا إياه المأزق الموريتاني هو أن الديمقراطية ليست حزمة إجراءات تقنوقراطية، تقدم عليها سلطة سياسية طارئة، تجعل المواطن في وضعية مخصوصة وغير مسبوقة هي صناديق زجاجية، كما أنها ليست فقط حق الانتخاب، بل إنها أساسا قيم.. قيم لم تجد بعد التربة التاريخية لتترسخ، ثقافة وسلوكا، في المشهد السياسي الموريتاني، وبالعامية المغربية: «الديمقراطية اللي شْربْها على الريق كتبين ليه العيب اللي في كرشو». ففي مجتمع يستمد عراقته من قيم القبيلة، لازالت عادات البداوة و«المناطحة» في النقاش السياسي، والعبودية والرق في التركيبة الاجتماعية، واقتصاد الريع والإعانات الدولية هي السمات البارزة لموريتانيا القرن الواحد والعشرين، والنتيجة الحتمية هي أنه مهما كانت شفافية الخطوات الديمقراطية المتبناة بشكل عمودي، فإنها تبقى استثناء في تاريخ راكم عقودا من الاستبداد، فليس النظام العشائري وقيم البداوة واستمرار الرق وهضم حق «الحراطين»، هو ما يضمن استقرار المؤسسات الديمقراطية، بل إن ما يضمن ذلك هو قيم حالة التمدن، وهذا هو وجه العراقة في التجارب الديمقراطية لغيرنا، لتبقى لموريتانيا ولشقيقاتها العراقة في البداوة،.. وهل تحتاج فوضى بهذا الوضوح لقاموس في السياسة الحديثة؟ إن من يدعو، اليوم، إلى العودة إلى النظام الديمقراطي في موريتانيا الدولة-القبيلة كمن يدعو إلى رسم مثلث مستطيل، فبما أن طبيعة هذا الكائن الرياضي تنفيه بلغة المناطقة، فإنه يجب النظر إلى هذه الدعوات على أنها دعوات تنشد المحال، وخطؤها التاريخي هو أنها تضيع هذه الفرصة لطرق باب الأسئلة الصائبة، والبدء بمعالجتها بعيدا عن الاستقطاب الإيديولوجي والعشائري، أهمها: لماذا يسهل انتهاك حرمة المؤسسات المنتخبة؟ وبعيدا عن منطوق الدساتير التي يسهل تعديلها في العالم العربي، ما هي الضمانات الحقيقية لعدم تكرار حالة الفوضى السياسية؟ فالديمقراطية تحميها طبيعتها عندما تكون حصيلة لشروط اجتماعية وتاريخية مخصوصة، في حين أن الديمقراطية الهجينة والمستنبتة في تربة البداوة والعشيرة واستمرار الرق واقتصاد الريع.. هي ديمقراطية يسهل تدميرها باستعمال أدوات القبيلة نفسها، إما بتدميرها من الأساس على يد انقلابيين عسكريين، كما تم في غشت الماضي، أو بإفراغها من جوهرها عن طريق المراقبة والتوجيه عن بعد، وهي المهمة التي ثبت أن زوجة الرئيس المخلوع كانت تقوم بها بطريقة ذكرتنا برواية «سباق المسافات الطويلة» للمرحوم عبد الرحمان منيف، ونفس الأمر كانت تقوم به بعض الزعامات القبلية والعسكرية والحزبية النافذة، ففرضوا على المواطن الموريتاني العادي اختيارات سياسية، كالعلاقة مع إسرائيل في السابق وتعويضها الآن بإيران، واقتصادية (عقود غير شفافة مع شركات التنقيب عن النفط)، واجتماعية (التغاضي عن التهميش التام الذي يعيشه الموريتانيون من أصل زنجي أو من يسمون ب«الحراطين»)، فيما بقي للمواطن الموريتاني العادي حق الانتخاب كل حين وحق الشعر كل يوم. ويكفي للاستدلال على هذا الاطلاعُ على التقارير التي كانت تنجزها جمعية «نجدة العبيد» إبان ما سمي بالتجربة الديمقراطية، والتي تبين أن ظاهرة الرق في المجتمع الموريتاني هي طابو اجتماعي حقيقي، عنوانه الإقصاء والتهميش والاحتقار في حق الموطنين الأفارقة، ورغم لفظتي «الإخاء والعدل» اللتين يتضمنهما شعار البلد، فإن بنيته الاجتماعية بنية لا إخاء ولا عدالة. في حين أن علاقة الديمقراطية بحقوق الإنسان وقيم المواطنة والسلوك المدني هي علاقة وجودية، وهذه هي رياح فلسفة الأنوار التي لم تهب على موريتانيا حتى الآن، فحيثما تتمكن القيم الديمقراطية، ثقافة وسلوكا، من مجتمع ما، فإن جميع المواطنين، مهما كان وضعهم البشري، يخضعون للإرادة العامة التي تمثلها المؤسسات الديمقراطية، وهم في هذا لا يخضعون إلا لإرادتهم التي عبروا عنها وجسدوها أثناء العملية الانتخابية، وفي هذا تكمن ممارسة الشعب لحريته وعدم خضوعه لأحد سوى نفسه. فحيث إن الدولة الديمقراطية ليست فقط انتخابات وحكومة وبرلمانا في ذاتها، كما كان عليه الحال إبان «غفوة الديمقراطية» المخلوعة، وبما أن الدولة الموريتانية أيضا، أثناء هذه التجربة وما قبلها، لم تقدم على خطوات حقيقية في ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وكرامته، ولم تتبن استراتيجيات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، بما تحيل عليه من توفير للخدمات والاحتياجات الأساسية كالتعليم والصحة والمسكن والغذاء والأمن والحقوق الثقافية، فإنها دولة تبقى، في طبيعتها، غير شعبية وغير وطنية، حتى وإن كانت نتيجة انتخابات، فمادامت البنية الاجتماعية التي أفرزتها إقصائية وتمييزية وبدوية، فإن هذه المؤسسات لم تكن لتعمر أكثر مما عمرت، إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان. أما دفاع البعض عن التجربة السابقة وفي ظل كل الحيثيات الواردة أعلاه، فهو موقف ينفي نفسه بنفسه، إذ من الطبيعي ألا تكون هذه الدعوة دفاعا عن الديمقراطية في ذاتها، بل دفاعا عن شخص الرئيس وما كان يمثله من استمرار لمصالح قبلية وفئوية غير خفية، فهل سنستفيد نحن المغاربة من هذا الدرس ونتعلم أن الديمقراطية، التي ننشدها على نحو حثيث، ليست فقط إجراءات تقنوقراطية: تقطيع انتخابي وتعددية حزبية وكوطا نسائية..، بل إنها ثقافة وقيم تحتاج إلى ترسيخ أولا وأخيرا..