لم تكن الهجرة تمثّل بالنسبة إلى المغاربة في الماضي نفس ما تمثّله لهم اليوم، حيث صار كل الناس تقريبا يفكّرون في مغادرة البلاد إلى الخارج، لا على شاكلة قدماء الحجّاج الذين كانوا يذهبون راجلين إلى الديار المقدّسة ليعودوا في النهاية إلى نقطة انطلاقهم -وربما استقر بهم المقام وهم في طريق الذهاب أو الإياب بهذا البلد أو ذاك دون تخطيط مسبق منهم- ولكن على شاكلة قدماء المهاجرين العرب وغير العرب الذين كانوا يغادرون بلدانهم نحو المجهول وقد أقسموا على ألا يعودوا إليها ثانية مهما كان. حصل هذا لأهل الشام في أوائل القرن الماضي، ولأهل العراق في سبعينياته وثمانينياته إلى درجة أنه يندر اليوم أن يجمعك اللقاء بعراقي قادم من العراق (فمعظمهم كان مضطرا، وما يزال، إلى الهجرة والإقامة بالمنافي). غير أن المثير في «فكرة الهجرة» المغربية أنها تشمل الجميع ولا تقتصر على فئة عمرية أو اجتماعية دون أخرى، ولا على منطقة دون غيرها: فالقروي الفقير الذي لا يملك أرضا يعتاش منها أو الذي قهرته سنوات الجفاف يفكّر في الهجرة (إلى إيطاليا، مثلا)، والحضري الغني يفضّل، بدوره، تهريب أمواله إلى الخارج واستثمارها في بلاد «متقدمة» تعطيه جنسيتها وتتيح له ولأسرته إمكانية الاستفادة من خدماتها الاجتماعية والصحية (كندا، بالخصوص). كما يستوي في ذلك الكبار (الذين تجاوزوا الخمسين من أعمارهم) بالأطفال الذين لم يبلغوا سن المراهقة، والمراهقين الذين لم يبلغوا سن الرشد بعد. إلى درجة أن كثيرا من الناس باتوا يعتقدون أنه لولا نظام التأشيرة المتشدّد الذي سنّته الدول الأوربية لدخولها لخلت البلاد من أهلها وما عاد يقطنها أحد. وبطبيعة الحال، فإن الاجتهادات تتعدد بخصوص أسباب هذه الرغبة الطارئة في الهجرة الجماعية، حيث يرى بعض الباحثين في علم الاجتماع الثقافي أن التلفزيون يلعب دورا أساسيا في الحثّ على الهجرة، لكنهم يختلفون في التفاصيل، فيرى بعضهم أن الإدمان على مشاهدة الفضائيات الغربية هو الذي يحرّض الناس على الهجرة نحو الخارج بحثا عن عالم أجمل وأفضل من عالمهم الذي تجعله تلك الفضائيات بئيسا في أنظارهم، كما يرى البعض الآخر أن سبب الهجرة يعود إلى الرغبة في الهروب من التلفزة المغربية التي صارت تحاصرهم بمسلسلاتها التركية والكورية والمكسيكية المدبلجة إلى العربية الدارجة. وهذه كلها أسباب وجيهة بالمقارنة مع من يريد تفسير هذه الرغبة بتردّي الأوضاع الاقتصادية للعديد من الفئات الاجتماعية، فقد كانت هذه الأوضاع متردّية عبر التاريخ، لكنها لم تكن تدفع الناس إلى التفكير في الهجرة بل إلى النضال من أجل تحسينها، فمن يكون غيّرهم سوى التلفزيون؟ لكن المشكل، بالنسبة إلى المغاربة، هو أن تفكيرهم في الهجرة جاء متأخرا جدا لسوء الحظ، ليس فقط بسبب الأزمة المالية والاقتصادية التي تضرب العالم في هذه الآونة، والتي جعلت سكان البلدان «المتقدمة» يعانون بدورهم من البطالة وينظرون بعين الحقد إلى كل مهاجر جديد أو كل أجنبي مقيم ببلادهم لاعتقاده أنه هو السبب في ما انتهوا إليه، ولكن أيضا بسبب أن شعوبا أخرى أكثر بؤسا منا سبقتنا إلى الهجرة في مطلع هذا القرن، فملأ المهاجرون المكسيكيون واللاتين السرّيون الولاياتالمتحدةالأمريكية، وملأ فقراء «أوربا الشرقية» (سابقا) شوارع أوربا الغربية بعد انضمام بلدانهم إلى الاتحاد الأوربي، بما لم يعد يسمح بأي مزيد. لذلك يبدو أن الحلّ الوحيد المتبقي أمامنا هو أن ننتظر ما سيسفر عنه تطوير الرحلات الفضائية المأهولة باتجاه «استعمار» كوكب القمر، لعلهم سيكونون في حاجة إلى يد عاملة (أو غير عاملة، في الحقيقة) هناك. وفي انتظار ذلك، يستحسن أن نطفئ جهاز التلفزيون ونربط حزام الأمان.