البلاغ الذي أصدرته الخارجية الليبية ردا على طلب المغرب تقديم توضيحات حول حضور زعيم جبهة البوليساريو في منصة الاحتفال بعيد الفاتح من سبتمبر، ينطبق عليه المثل القائل «العذر أقبح من الزلة» أو كما يقول المغاربة «جا يكحل ليها عماها». فالإخوة في الخارجية الليبية أرادوا أن يقنعوا زملاءهم في الخارجية المغربية بأن حضور عبد العزيز المراكشي في منصة الاحتفال جاء نتيجة خطأ في البروتوكول سببه الارتباك الذي وقع فيه المنظمون الذين كثر عليهم المدعوون. وإذا أردنا أن نقرأ بلاغ الخارجية الليبية كما هو فإننا نستنتج أن عبد العزيز المراكشي لم يكن مدعوا إلى الجلوس في منصة الضيوف الرسميين إلى جانب العقيد القذافي، بل غافل المنظمين ولجان الحراسة الثورية وتسلل إلى مكان الحفل وسطا على كرسي لم يكن مخصصا له، علما بأن الكراسي في المناسبات التافهة تكون مرقمة وحاملة لأسماء أصحابها، فما بالك بنشاط رسمي على أعلى مستوى في الدولة الليبية مخصص لإحياء الذكرى الأربعين لجلوس القائد على «العرش». وإذا كنا بكل هذا الغباء وصدقنا الرواية الليبية، فكيف يمكننا أن نصدق أن معمر القذافي لم ينتبه إلى وجود زعيم البوليساريو في المنصة، خصوصا وأن هذا الأخير تقدم للسلام عليه بحرارة قبل أخذ مقعده خلفه. وإذا كانت الخارجية الليبية تعتقد أننا بلداء إلى هذا الحد، وأننا اقتنعنا بكون الزعيم الليبي صافح زعيم البوليساريو قبل أن يأخذ مكانه في المنصة دون أن يتعرف عليه، فكيف ستجعلنا الخارجية الليبية نقتنع بأن معمر القذافي يوشح صدر زعيم البوليساريو بوسام خلال احتفالاته عن طريق الخطأ. هل هذا التوشيح أيضا مجرد خطأ بروتوكولي آخر. إن الصور التي التقطت للمنصة والتي يظهر فيها عبد العزيز المراكشي يصافح القذافي وأمير قطر وملك الأردن، والتي نشرتها المواقع الإلكترونية الليبية ومواقع البوليساريو، تظهر بوضوح أن الرجل كان مدعوا بشكل رسمي إلى المنصة ولم يتسلل إليها على أطراف أصابعه كما تحاول الخارجية الليبية شرح ذلك بطرق ملتوية. إن أقل شيء كان على الخارجية الليبية أن تقوم به هو تقديم اعتذار إلى المغرب على هذه الإهانة التي ألحقت به، أما أن تصلح هذه الزلة بعذر أقبح منها فهذا يدل على أن الأشقاء في ليبيا لكثرة ما تعودوا أن يتلقوا الأعذار من الدول الأوربية فإنهم أصبحوا لا يرضون بتقديم اعتذار بسيط إلى جيرانهم عن خطأ يعترفون بارتكابه. الآن، يتضح بجلاء أن الخطأ الذي تتحدث عنه الخارجية الليبية لم يكن بسبب سهو أو ارتباك في عمل اللجنة التنظيمية، وإنما كان خطأ مقصودا. فالهدف من جمع الوفد المغربي الرسمي وزعيم البوليساريو فوق منصة واحدة وراء العقيد هو التقاط صورة تذكارية تجمع الطرفين المتصارعين منذ ثلاثين سنة لكي تطوف الصورة عبر جميع وكالات الأنباء والصحف والمواقع الإلكترونية. والرسالة التي أراد العقيد إرسالها من وراء هذه الصورة، لو أنها تحققت، هي إضفاء المشروعية السياسية على البيان الأخير الذي صدر عن مؤتمر الاتحاد الإفريقي الذي تزعمه العقيد ونظمه في طرابلس، والذي استعمل فيه كل نفوذه لوضع فقرة في بيانه الختامي تقول بالحرف إن «هناك ضرورة قصوى لتنظيم استفتاء لتقرير المصير في أقرب الآجال في الصحراء، فهذا هو الحل الذي يراه مؤتمر الاتحاد الإفريقي صالحا لتحرير آخر مستعمرة في إفريقيا». ولحسن الحظ أن الوفد المغربي انسحب من المنصة قبل أخذ الصورة الجماعية، وإلا كانت هذه الصورة ستكون كافية لكي يروج دعاة الانفصال لأطروحة قبول المغرب بالجلوس والاعتراف بزعيم البوليساريو. وطبعا، هذا سيشجع الدول التي لم تعترف إلى حدود اليوم بجبهة البوليساريو على المسارعة إلى فعل ذلك، فمادام المعني الأول بقضية الصحراء، والذي هو المغرب، يقبل بالجلوس في نشاط رسمي مع ممثل البوليساريو فكيف سيتردد الآخرون الذين ليس بينهم وبين البوليساريو سوى الخير والإحسان في القيام بأكثر من ذلك. ماذا ينتظر الطرف المغربي، إذن، من القذافي إذا كان هذا الأخير قد قطع شعرة معاوية بخروجه من مؤتمر الاتحاد الإفريقي بهذا الطلب المرفوع إلى الأممالمتحدة، والذي يصف المغرب بالمستعمر ويسمي صحراءه بالمستعمرة. الجواب جاءنا هذا الصباح عندما علمنا بأن وفدا مغربيا «رفيعا عاود ثاني» يستعد للسفر إلى ليبيا لترطيب الأجواء بعد إصدار خارجيته لبلاغها التوضيحي والذي تعترف فيه بالخطأ دون تقديم اعتذار عنه، وكأن المغرب كان ينتظر فقط إشارة بسيطة من الأصبع الصغير للزعيم الليبي لكي يسحب «السلة بلا عنب» ويتراجع عن موقفه ويعيد المياه إلى مجاريها، مع أن هذه المجاري مقطوعة أصلا من الجانب الليبي. وطبعا، لكي يغطي عباس الفاسي على هذا الموقف الجبان للدبلوماسية المغربية لم تجد جريدة «العلم»، لسان حزب الاستقلال الطويل، من مشجب تعلق عليه الأزمة المغربية الليبية الأخيرة سوى مشجب الصحف المغربية المستقلة، والتي حملتها المسؤولية المباشرة عن مغادرة الوزراء المغاربة الثلاثة لمنصة العقيد. هذا ما يسميه المغاربة «طاحت الصومعة علقو الحجام». فحزب الاستقلال، الذي يقود الحكومة والذي يعتبر المسؤول الأول عن تدبير الأزمات الدبلوماسية، يفضل أن يجلد صحافة بلده وأن يحملها مسؤولية خطأ بروتوكولي اعترفت به الخارجية الليبية نفسها. وعوض أن يتجرأ لسان حزب الاستقلال على مطالبة الخارجية الليبية بتقديم اعتذار عن الإهانة التي ألحقوها بالمغرب، اختار هذا اللسان الطويل اتهام الصحف الثلاثة، التي يتابعها العقيد في بلادها بمباركة من وزيري العدل والخارجية، بوقوفها وراء انسحاب الوفد المغربي من ليبيا. وقديما قال الشاعر «أسد علي وفي الحروب نعامة». فعباس ووزيره في الخارجية عندما وجدا أنهما غير قادرين على مواجهة القذافي فضّلا مواجهة صحافة بلادهما، فهي السور القصير الذي يسهل القفز فوقه. ولكي يخفي حزب الاستقلال جبنه وتهافته وهوانه، فإنه لا يجد أحسن من كذبة الدفاع عن مصالح 250 ألف مهاجر مغربي يشتغلون في ليبيا، ولذلك يسارع إلى ترطيب الأجواء مع العقيد حتى لا تطنطن له الذبابة الهندية في رأسه ويطرد هؤلاء المهاجرين المغاربة كما صنع ذات مرة مع المصريين والفلسطينيين. لو كان حزب الاستقلال، الذي يقود الحكومة، يحمل همّ المهاجرين المغاربة لكان وفر لهم شغلا يحفظ لهم كرامتهم في بلدهم يغنيهم عن البحث عن الخبز في مطابخ الجيران، لكن ما يشغل حكومة الفاسي الفهري هو ضمان الشغل لأبنائهم أولا. وقد رأينا كيف ضمن عباس لنجله وظيفة مهمة في التلفزيون وضمن للآخر مقعدا في مجلس مدينة الدارالبيضاء، ورأينا كيف ضمن الفاسي الفهري وظيفة لابنه على رأس معهد «أماضيوس» الذي يراسل المؤسسات العمومية من أجل احتضان أنشطته بمئات الملايين من الدراهم. وما يجمع بين هؤلاء الأبناء البررة هو أنهم لم يتعدوا سنتهم الخامسة والعشرين بعد. إن التهديد بطرد المهاجرين المغاربة العاملين بليبيا لا يجب أن يكون سببا في غض الطرف عما يقوم به القذافي من إساءة إلى قضية الصحراء المغربية. لذلك، فالمطلوب ليس هرولة اليازغي والمنصوري والعنصر إلى ليبيا لترطيب الأجواء وتطييب خاطر العقيد بعد اعترافه بخطئه البروتوكولي، وإنما المطلوب هو أن يكف العقيد عن أخطائه السياسية ويتوقف عن استعداء الدول الإفريقية المكونة للمؤتمر الإفريقي ضد الوحدة الترابية للمغرب. هذا هو صلب المشكل، أما أن يعترف العقيد بالخطأ أو ينكر فهذا أمر ثانوي. المهم هو أن يعترف صراحة بموقفه من النزاع الدائر في الصحراء بين المغرب والبوليساريو منذ ثلاثين سنة. أعتقد أن القذافي اعترف بموقفه من هذا النزاع عندما وشح، خلال احتفالاته، صدر زعيم البوليساريو، والتفت إلى هوغو تشافيز، رئيس فنزويلا، ووشحه هو الآخر بوسام. هكذا، يكون القذافي قد وشح ألذ خصوم المغرب بوسامين شرفيين ووشح ضيوفه المغاربة بوسام الإهانة.