وحدها الحوادث ذات الدلالة الاستثنائية هي التي تلهب حماس المحلل السياسي حتى لو لم تحتل واجهة المشهد الإعلامي، وعندما تتجسس (إسرائيل) على أمريكا فمن الضروري أن نتوقف ونحاول فهم دلالات الموقف الذي يفترض ألا يحدث في ضوء المقولات السائدة في الخطاب السياسي العربي عن العلاقة بين أمريكا (وإسرائيل) والتي تتراوح بين الترويج الأعمى لمقولة أن (إسرائيل) تحكم أمريكا، والترديد الببغائي لخرافة أن العلاقة بينهما هي «العروة الأوثق» التي لا ثغرات فيها ولا مسافات ولا خلافات حيث «إسرائيل هي أمريكا» و«أمريكا هي إسرائيل»! تنطلق البدايات الأولى لتاريخ التعاون الأمريكي – الإسرائيلي منذ اللحظة التي اعترف فيها الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان عام 1948 بقيام دولة إسرائيل، رغم اعتراض الكثير من مساعديه حينها، وبعد أيام قليلة من صدور هذا الاعتراف الأمريكي، قدمت الإدارة الأمريكية قرضا للإسرائيليين قيمته 100 مليون دولار، بينما امتنعت عن تقديم المساعدات للفلسطينيين بعد أن كانت الحركة الصهيونية قد شردتهم من مدنهم وقراهم وبيوتهم، لتبقى الاستثناءات الأمريكية تتوالى في معاملة الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين من جهة، وعلى حساب المصالح العربية من جهة أخرى وعلى نحو صارخ ومحير حتى لأعتى المحللين والباحثين. ومع ذلك فإن الانحياز الأمريكي لجهة (إسرائيل) والتعاون الإسرائيلي - الأمريكي الواسع في قضايا التبادل التكنولوجي العسكري والمدني، لم يمنعا (إسرائيل) من الاستمرار والتكرار في محاولات التجسس الصناعي والفني والعسكري في أنحاء مختلفة من العالم حتى داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها. وفي كتابه (الانحياز) المنشور عام 1985 ذكر «ستيفن غرين» وهو باحث أمريكي مستقل، أن الإسرائيليين يكرسون جزءا ملموسا من عملياتهم السرية والعلنية للحصول على معلومات فنية وعلمية في أنحاء كثيرة من العالم ولا سيما الولاياتالمتحدةالأمريكية، بحيث اشتملت بعض هذه المحاولات التجسسية على بعض مشاريع الدفاع المصنفة ضمن أسرار الدولة في الولاياتالمتحدة وعدد آخر من الدول العربية. ولم تتوان (إسرائيل) منذ نشأتها عن زرع الجواسيس في الولاياتالمتحدةالأمريكية وعلى مختلف المستويات، ففي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات تم اكتشاف أول مجلس للتجسس على الولاياتالمتحدةالأمريكية برئاسة أول ملحق عسكري إسرائيلي في الولاياتالمتحدة وهو « افرايم بن ارتزي»، ليتم طرد العقيد « هرتسوغ» العامل في السفارة الإسرائيلية من واشنطن لاتهامه بالتجسس على الولاياتالمتحدةالأمريكية في ملفات اعتبرت ذات حساسية أمنية عالية. وفي عام 1956 قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية (F.B.I) بمتابعة حثيثة للعميلين الإسرائيليين «ابرامسكي ونفوث» دون أن يتم اعتقالهما خاصة وأن هذين العميلين كانا قد اكتشفا عملية المراقبة هاته وهمّا بالرجوع إلى (إسرائيل) بعد ذلك، ليتم استبدالهما في أواسط الستينيات بالعميل الإسرائيلي «آيتان» الذي كان يعمل كملحق سياسي في السفارة الإسرائيلية بواشنطن، ثم بالعميل «لانجوتسكي» في أواسط السبعينيات وتحديدا في عام 1976 والذي كان يشغل منصب ملحق عسكري في السفارة نفسها إلى جانب عمله بالموازاة في وزارة الدفاع الأمريكية واللذين سرعان ما تم الكشف عنهما والقبض عليهما ومحاكمتهما بتهمة التجسس لصالح (إسرائيل) . وتوالت بعد ذلك عمليات التجسس الإسرائيلية على الولاياتالمتحدةالأمريكية، بحيث لم يكن يمر عام إلا ويتم الكشف عن فضيحة تجسس أخرى يتم ارتكابها من طرف أحد عملاء الموساد السريين، فقد تم الكشف عن أربع عمليات تجسس في فترة الثمانينيات لعب بطولتها أساتذة جامعيون ورجال أعمال إسرائيليون كانوا يعملون لصالح الموساد الإسرائيلي، كان أولها في عام 1983 حين تم القبض على أستاذ كبير في كلية وزارة الدفاع الأمريكية بتهمة التجسس لصالح (إسرائيل)، ثم الكشف عن ثلاث قضايا أخرى كان أشهرها القبض على العميل «جوناثان جي بولارد «وزوجته، بالإضافة إلى قضية العميل» ميغا «التي وقعت أحداثها في فترة الرئيس» بيل كلينتون«والتي تم التستر عليها مقابل التست ر على فضيحة مونيكا لوينسكي والتي سنبين تفاصيلها في حلقة خاصة ضمن هذا المحور الصحفي. ولعل من أهم وأبرز عمليات التجسس الإسرائيلي على الولاياتالمتحدة ما تم الكشف عنه بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر(عام 2001)، بالرغم من التستر عليها لأسباب سياسية نظير ضغط اللوبي اليهودي، وما تلا ذلك من عمليات تفكيك لأوسع شبكة إسرائيلية للتجسس في أمريكا والتي شملت في محتواها التحقيق مع رجال أعمال وطلاب فنون نظير اشتباههم في التجسس على هواتف البيت الأبيض وقيادات سياسية وعسكرية أمريكية، كما سنأتي على ذكره في حلقة خاصة.