منذ أسبوع، كتبنا عن وجود بوادر عالمية اقتصادية تدفع نحو معاودة أسعار البترول إلى الارتفاع مجدًّداً، مُّما سيخلق بدوره ظاهرة تدفق الفوائض المالية الهائلة الدورية في خزائن حكومات دول البترول العربية، وعلى الأخص دول مجلس التعاون الخليجي. وقد عاودنا التحذير من إضاعة هذه الفرصة، كما ضاعت من قبلها فرص أخرى، وذلك بانتهاج سياسة استعمال هذه الفوائض في بناء اقتصاد هش يقوم على المضاربات العقارية وبناء المجمًّعات السكنية بالغة الفخامة والبذخ للأغراب وعلى المضاربات في الأسهم العبثية. وانتهينا إلى التذكير بما كتب مراراً من ضرورة استعمال هذه الفوائض في بناء اقتصاد إنتاجي معرفي قادر على الاستمرارية بعد انقضاء عهد البترول غير البعيد عنا. لكنّ ذلك التحول لمثل ذلك الاقتصاد المتطور سيحتاج إلى مداخل فكرية وعملية مفصلية كبرى، والتي بدونها سننتهي إلى استيراد الشركات الأجنبية والقوى العاملة الخارجية غير العربية وعلوم وتكنولوجيا الآخرين للقيام بذلك. وذلك لن يبني اقتصاداً عربياً ذاتياً وإنٌّما سيبني اقتصاداً عولمياً تابعاً ومؤقٌّتاً. في قلب تلك المداخل ما يلي : أولا: اعتبار البترول ثروة مجتمعية، هي ملك المجتمع كلًّه وليست ملكاً لمؤسسة الحكم. إن اتخاذ الخطوات القانونية والتنظيمية لتنفيذ ذلك هو المدخل لاستعمال ثروة البترول في بناء اقتصاد إنتاجي معرفي ذاتي باسم الجميع ومن أجل الجميع بدلاً من استعمالها كريع في يد القائمين على الحكم لاستعمالها في الموازنات السياسية وشراء قوى الدّعم وأحياناً في الاستزلام القبلي أو الطائفي أو التجاري وفي استهلاك نهم عبثي بشتًّى أنواعه. ودون تغيير في النًّظرة إلى معنى ووظائف واستعمالات الثروة البترولية سيكون الانتقال إلى بناء اقتصاد عصري متطور مستقر غير فاسد أمراًُ صعباً ومتعثراً. وهذا التغيير سيحتاج إلى شجاعة وحكمة وتضحيات لإحداث تفاهم تاريخي بين أنظمة الحكم وبين شعوبها ومؤسسات مجتمعاتها. ثانياً: لن يكون ذلك الاقتصاد ذاتياً وجزءاً من مشروع تنموي إنساني شامل إلاً إذا كان المواطن هو أداة بنائه. ولا يمكن للمواطن أن يسهم في بناء اقتصاد عصري حديث إلاُ إذا كان هو إنساناً عصرياً حديثاً ولا مدخل إلى ذلك إلاً نظام تعليمي وتدريبي عصري حديث من مرحلة الروضة وحتى مرحلة الجامعة وما بعدها. ولا مدخل إلى ذلك النظام التعليمي إلاً معلُم عصري حديث. إن توفّر الفوائض المالية، إذا توفّرت الإرادة السياسية، لبناء مثل ذلك النظام ولبناء أداته، المعلُم الممتهن المدرب تدريباً عالياً، ذي الخلفية الثقافية الواسعة، المنتمي إلى مهنة رفيعة المستوى لا تقل في أهميتها ولا امتيازاتها المالية والاجتماعية عن المهن الرفيعة الأخرى كالطب والهندسة. إن توفر الفوائض تلك سيجعل في قدرة تلك الحكومات امتلاك أفضل المدارس والجامعات ومراكز البحوث لتخريج مواطنين وعاملين مبدعين وقادرين، بالتالي، على الانخراط الحقيقي الفاعل في العملية الاقتصادية التي نتحدث عنها. إن دول البترول العربية يجب أن لا تتوهّم أو تحكم بأنها ستكون قادرة على بناء اقتصاد إنتاجي معرفي دون حلٍّ جذري لموضوع التعليم ودون بناء أداته ومحرّكه ومطوّّّّّّّّّّّّّّّره، وهو المعلٍّم . ثالثاً: أن يكون هدف بناء ذلك الاقتصاد خلق قاعدة توزيع عادل لثروة البترول والثروة التي ستنتج من بناء ذلك الاقتصاد الإنتاجي. وأساس تلك العدالة هو الترابط بين مقدار الجهد الذي يضعه الفرد ومقدار ما يحصل عليه من أجر وامتيازات مادية أخرى، وليس انتماء ذلك الفرد إلى هذه الجماعة العرقية أو الطائفيه أو العائلية أو مدى قبوله لظاهرة الاستزلام والخدمة لهذا أو ذاك. إن الناس لن يُقبلوا على التعلم والارتقاء في مستوياتهم العلمية والتدريبية إلا إذا اطمأنوا على أن ذلك سيؤدي بهم إلى احتلال مكانة اقتصادية واجتماعية تتناسب مع جهدهم وعطائهم فقط وليس مع قربهم من هذه الجماعة أو تلك. رابعاً: سيكون ذلك الاقتصاد قابلاً للانتكاسة إن لم تكن له علاقة متينة بمن حوله. ولذلك فإن بناء الاقتصاد الإنتاجي المعرفي في دول البترول يجب أن يكون القاطرة التي ستجُّر معها الاقتصاد العربي برمًّته. إن الاعتماد على العلاقات مع الاقتصاد العولمي لن يكون مستقراً أو مضموناً ما لم يمُّّّّّّر عبر الاقتصاد الإقليمي العربي برمُّته. وبالرغُّم من كل الحديث عن الاقتصاد العولمي فإن مجال دول البترول العربية الاقتصادي الحيوي سيظلّ الوطن العربي المحيط بها والذي لن يخذلها. طريق صعب ومعقد؟ نعم، ولكنه موصل إلى تنمية إنسانية حقيقية مستدامة.