لئن بدت الجمهورية الإسلامية أكبر دولة تضم أكبر عدد من أتباع المذهب الاثني عشري، إذ قد يشكل أتباع هذا المذهب ثلثي سكانها (الستين مليونا)، فإن هذا العدد لا يمثل غير الجزء الأقل من شيعة العالم. ومع ذلك، فإن الجمهورية الإسلامية - رغم أنها تضم أقواما متعددين، فرسا وأذريين وكردا وعربا، ومذاهب إسلامية غير التشيع الاثني عشري، أهمها أتباع المذاهب السنية (بين 20 و30 %)- تظل، على نحو أو آخر، الحاضن الأكبر لأتباع هذا المذهب الاثني عشري على نحو من احتضان السعودية لما يسمى بالوهابية. وهو ما يطرح السؤال عن طبيعة العلاقة بين الشيعة العرب وبين الجمهورية الإسلامية بالتحديد؟ وعن التمدد المذهبي؟ 1 - هذه العلاقة ملتبسة ولا تأخذ سمتا واحدا، إذ تتراوح -كما ظهرت خاصة في العراق- بين الولاء المطلق، دينيا وسياسيا، وبين التحالف مع أعدائها الأمريكان، مرورا بعلاقة الصداقة والاستقلالية. فمن ناحية النظرية المؤسسة للدولة، فليس للشيعة العرب موقف واحد من المبدأ الذي تقوم عليه جمهورية إيران، مبدأ ولاية الفقيه، فمنهم من يؤمن به ومنهم من يرفضه ويقابله بولاية الأمة على نفسها، وهو ما نادى به صديقنا المرحوم العلامة مهدي شمس الدين وطوره الرئيس خاتمي، إذ نادى بالديمقراطية الإسلامية، بما يفسح المجال أمام أتباع المذهب للاندماج في أوطانهم وتمحيض الولاء لها، ولا يجعلهم ملزمين دينيا بقيادة الولي الفقيه صاحب السلطة العليا في «الجمهورية الإسلامية»، فهم لم يختاروه وإنما كان اختياره وفقا لدستور دولة قومية، فلا يحمل إلزاما لغير مواطنيها على اختلاف دياناتهم، وهو ما يحصر العلاقة في المجال الديني، بمعنى مرجعية الفتوى داخل المذهب، وهي ليست مرجعية واحدة بل متعددة. أتباع المذاهب الشيعية، مثل غيرهم، موزعون على أوطان شتى، هم جزء منها، يتأثرون بأوضاعها، وقد تبلغ خلافاتهم حد هدر الدماء، كما كان قد حصل في لبنان بين حزب الله وأمل، وفي العراق بين الصدريين وجماعات أخرى وبين سلطة حزب الدعوة والمجلس، فمن التبسيط بمكان اعتبار التشيع السياسي أو الديني شيئا واحدا والأمر نفسه يصدق على التسنن، فهو متعدد دينا وسياسة، تعددا يصل إلى استباحة الدماء، ففي الجزائر تقاتلت الفصائل المسلحة وانحاز إسلاميون إلى العسكر في القتال ضد جماعات إسلامية أخرى. وفي العراق لا يزال دم غزير يسفك بين قوى المقاومة والقوى المنخرطة في العملية السياسية، ومثله في الصومال وأفغانستان.. فمن الخطل حصر التناقضات في الاختلافات المذهبية لتفسير كل صراع في المنطقة، في انصراف عن الأسباب السياسية المصلحية التي كثيرا ما كانت الوقود الحقيقي. 2 - ورغم أن التشيع أوسع من أي دولة، فإنه لأسباب واقعية كاد يتحول عنوانا من عناوين الجمهورية الإسلامية، بما جعل كل شيعي مظنة شبهة ولاء لإيران المتهمة بالتدخل في الشؤون الداخلية للمجتمعات السنية عبر إحداث اختراقات في بنائها المذهبي عن طريق ما ينسب إلى بعثاتها الثقافية من نشر لمطبوعات تنال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثير خلافات عفا عليها الزمن، وهو ما حدا بالشيخ البوطي –حسبما نقله عنه بعض العارفين- إلى أن يتقدم بملف موثق بنشاطات شيعية في سوريا تسهر عليها السفارة الإيرانية، مما أفضى إلى تغيير السفير. ولقد كان صديقنا الشيخ محمد علي التسخيري قد نبه إلى الضرر الذي ينال مصالح الجمهورية الإسلامية من نشر بعض المطبوعات التي تنال من عقائد أهل البلد مثلما حصل في السودان وأدى إلى إغلاق المكتب الثقافي الإيراني. ولا يزال الشيخ القرضاوي ينبه إلى خطر هذه الاختراقات. 3 - أما دول المغرب العربي فهي المنطقة التي عرفت أول دولة شيعية إسماعيلية انطلق داعيها من المغرب الأقصى وجمّع من الأنصار والدعاة ما مكنه من الزحف بهم على عاصمة المنطقة يومئذ، مدينة القيروان، مقترفا حرب تطهير ديني ضد المذهب السني، ولم يطمئن إلى إخلاص السكان له، فغادرها ليؤسس غير بعيد عاصمة له في مدينة دعاها المهدية، وانطلق منها في فتوحات في اتجاه المشرق العربي فاستولى على مصر وأسس فيها القاهرة عاصمة له والأزهر ليكون منطلقا لدعوته، ولم تلبث المنطقة أن تمردت على واليه، عائدة إلى مذهب مالك. وبزوال دولته زال التشيع نهائيا من المنطقة، كما انقطع من مصر نفسها بعد سقوط دولته على يد صلاح الدين. وظلت المنطقة أزيد من ألف سنة خالصة للمذهب السني عدا قلة من الإباضيين تأقلموا مع الأغلبية وتعايشوا معها في أمان، وظل الأمر كذلك حتى أواخر القرن الرابع عشر الهجري حيث بدأت خيوط رفيعة جدا من التشيع الديني تدخل المنطقة على متن التشيع السياسي، مناصرة للثورة الإسلامية ولبطولات حزب الله. هل هو أمر مخطط؟ أم انسياب عفوي لعالم الأفكار والتوجهات لا يملك أحد أن يصده وليس وراءه جهد منظم كما يؤكده الشيخ حسن عز الدين، مسؤول العلاقات الخارجية في حزب الله، جوابا عن سؤاله من قبل «الشروق الجزائرية» في 13/6/2009: «ما يقال عن التشييع غير صحيح وغير دقيق، وهو جزء من الفتن التي يثيرها العدو والإدارة الأمريكية وضعاف النفوس الذين ينزلقون، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وراء هذه الفتن. لا يوجد مشروع لنشر التشيع في المنطقة سواء لدى حزب الله أو لدى إيران، بل بالعكس حزب الله هو أداة وحركة استراتيجيتها وأولويتها تكمن في مواجهة العدو الصهيوني وفي كيفية أن تبقى المقاومة متجذرة في المنطقة كخيار تتبناه الشعوب والأنظمة. كما أن حزب الله يعمل لأجل بناء علاقات إيجابية مع جميع الدول العربية والحفاظ على الوحدة بين المسلمين». 4 - إلا أن كثيرا من علماء الإسلام ومن المسؤولين السياسيين في أكثر من بلد عربي ما يفتؤون يشجبون جهودا منظمة للتشييع: - ففي الجزائر تناولت الصحافة النشاط الشيعي، بما شغل الرأي العام وانتقل الأمر إلى المؤسسات التشريعية والتنفيذية لاتخاذ إجراءات للتصدي. - وفي المغرب تعالت أصوات التحذير من أخطار الاختراقات السلفية والشيعية على حد سواء لبنيته المذهبية المالكية، فتم التبني الرسمي للمذهب المالكي، على نحو من التبني الإيراني للمذهب الجعفري، وبلغ الأمر حد قطع العلاقة مع الجمهورية الإسلامية بشكل مفاجئ حامت حوله الظنون ولاسيما أنه اقترن بمسالك أمنية لمطاردة بعض معتنقي التشيع ومطبوعاتهم بما يستدعي إلى الذاكرة قصص التفتيش. - وشبيه به حصل في مصر في نوع من الخلط المريب والتوظيف السياسي لما سمي بخلية حزب الله للقيام بحملة ضد التشيع وضد إيران وحزب الله، حملة لم تخف أهدافها السياسية سواء في التغطية على فضيحة الموقف المصري تجاه خنق غزة وحرمانها حتى من المساعدات الغذائية القادمة، فتركت ملقاة على امتداد أميال حتى تعفنت فعرّضت المنطقة للأوبئة، فلزم تحريقها، أو في ما استهدفته تلك الحملة من سوق للمياه إلى مجاري السياسة الأمريكية والصهيونية في التعبئة ضد إيران وتأليب الرأي العام اللبناني ضد حزب الله على مشارف انتخابات فاصلة.