إن مصير الديمقراطية والديمقراطية المحلية في المغرب من بعض الوجوه أصبح اليوم يوجد بين أيدي الطبقات المتوسطة غدا ينظم الاقتراع العام لاختيار 27.795 مستشارا جماعيا. وإذا كان الأصل أن يشارك الناخب في الاقتراع، فإن عددا كبيرا من الناخبين المغاربة سيطرحون على أنفسهم السؤال عن جدوى المشاركة في التصويت، وسيتريثون قبل اتخاذ القرار، فالمشاركة لم تعد أمرا محسوما ومسلما به، بل غدت موضوع تردد وحيرة وتشكك. وفي إطار مواكبة التمرين الذهني الذي سيخوضه عدد كبير من الناخبين بحثا عن الموقف الأسلم، سنبدأ بطرح مبررات المشاركة: - المشاركة حق دستوري منصوص عليه في الفصل الثامن من الدستور الذي يقضي بأن «لكل مواطن، ذكراً كان أو أنثى، الحق في أن يكون ناخبا إذا كان بالغا سن الرشد ومتمتعا بحقوقه المدنية والسياسية». والتخلي عن الحق الدستوري يريح جانب أعداء الديمقراطية. وسيكون كثير من الحكام سعداء بممارسة مواطنيهم لواجباتهم كاملة وزهدهم في تفعيل التمتع بالحقوق. - عندما نصوت يكون لدينا أساس منطقي لمحاسبة من صوتنا عليهم. - تعدد الأحزاب والبرامج والمرشحين يتيح للناخب، نظريا، مجالا واسعاً للاختيار، فإذا لم يرضه هذا الحزب يمكنه التصويت على غيره، فهناك تنوع في المشارب والمدارس الفكرية والعائلات السياسية المشاركة. - تراجع نسبة المرشحين المستقلين الذين لا يتعدون 1598 مرشحا، بمعنى أن كثافة الترشيح الحزبي تمنح الناخبين مبدئيا إمكانات لمحاسبة الحزب ككل عن صنيع من ترشح باسمه، بينما المستقل يمكن أن يختفي في لحظة تقديم الحساب. - أصبح الإعلام العمومي يلعب دورا كبيرا في التعريف بالأحزاب والبرامج والمرشحين، ويساعد الناخب في تحديد اختياره. - تقلص عدد الحساسيات السياسية التي تقاطع الانتخابات، فالمشاركة كاختيار أصبحت أقوى من الماضي، وهامش التحرك الانتخابي اتسع، ومنافذ التواصل مع المواطنين انفتحت أكثر. - حصول تطور هائل في وسائل التسويق الانتخابي، وذلك -مثلا- باستعمال الأوراق والملصقات واللافتات الكبرى، وصباغة رموز المرشحين على هياكل السيارات والدراجات الهوائية، وتوزيع الأقمصة والأقراص المدمجة، وتوجيه رسائل عبر الهاتف النقال، واستخدام الأنترنيت والصفحات الإشهارية للجرائد... إلخ. والمفروض أن يمارس تجويد وتحديث أدوات التسويق الانتخابي دوره المعروف في الإقناع. - تطور الترسانة القانونية المنظمة للاقتراع، وذلك -مثلا- باعتماد نظام اللوائح في الجماعات الكبرى، وتقوية المقتضيات المتعلقة بزجر المخالفات الانتخابية، وتخفيض سن التصويت والترشيح، وتعيين كوطا للنساء، وتسليم لوائح الناخبين للأحزاب وتنقيتها من «الشوائب»، واشتراط البطاقة الوطنية أو دفتر الحالة المدنية في إثبات الهوية من أجل التصويت، واستعمال المداد... إلخ. - تراجع أشكال التزوير المباشر، وإفساح المجال لمختلف أنواع المراقبة والملاحظة الوطنية والدولية. أما بالنسبة إلى المبررات المفترضة لعدم المشاركة في التصويت فيمكن أن تتجلى -مثلا- في: - تماثل البرامج والخطابات والشعارات، مما يجعلنا، عمليا، في حالة أشبه بوجود حزب واحد بلوائح متعددة. - عدم احترام النخب الحزبية لالتزاماتها وتعاقداتها وللمنطق المؤسس لماهياتها، فما معنى أن نصوت على حزب من اليسار إذا كان سيتحالف مع حزب من أقصى اليمين؟ وما قيمة الوعود المعلنة إذا كان لا يتم الوفاء بها؟ - الأعطاب الدستورية والقانونية التي تجعل المنتخبين لا يملكون سلطة القرار في القضايا الاستراتيجية والحيوية. - يُراد للمستشارين أن يمثلوا جيشا تابعا، تحقق من خلاله السلطة أهدافها المرسومة مسبقا، ولا يتمتعون عمليا بمشروعية مستقلة، ويؤثثون فضاء أشبه بديمقراطية الواجهة. - ضعف تأثير المشاركة الانتخابية في الواقع الذي يظل كما هو، خاضعا تقريبا لنوع من القدرية السياسية التي لا توجه أشرعتها رياح النتائج الانتخابية. - جنوح النخب السياسية نحو استعمال المؤسسات المنتخبة كأدوات للارتقاء الاجتماعي وخدمة المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة. - اتسام خطابات النخب باللامسؤولية، فهي تطرح «برامج» تعلم مسبقا باستحالة إنجازها، وتتقدم إلى الناخبين كما لو أن تاريخ ميلادها هو يوم بدء الحملة الانتخابية، ورغم مسؤوليتها عن تجارب الماضي فإنها تلقي بثقل تلك المسؤولية على كاهل الأشباح. - افتقار الساحة السياسية إلى حزب يجمع بين المصداقية والقوة والنجاعة، فنجد في أكثر الحالات أن النزاهة تترافق مع الهامشية. - كثرة الانشقاقات الحزبية تجعل الناخبين يتخوفون من أن يتحول الحزب الذي سيصوتون عليه، بعد مدة من الزمن، إلى مجرد أشلاء متطايرة. - الضعف العام للأحزاب وعجزها عن تجديد نفسها بالقدر الكافي، وعدم إخضاع تدبيرها لآليات ديمقراطية منفتحة. - انعدام النقاش الحقيقي الذي تتواجه فيه البرامج والأفكار والمشاريع، ويتسم بالحرارة والحيوية والعمق. لقد تحولت الوصلات الإشهارية إلى بديل عن النقاش المطلوب. - تقييد العمل الجماعي بأغلال الوصاية التي تكبح حركته، وإخضاع الصلاحيات المخولة للمؤسسات المنتخبة إلى منطق تدبير رئاسي مفرط، وترسيخ صورة عن المستشار الجماعي تجعله يظهر كمجرد وسيط فقط لدى سلطة تعرف وحدها ما يجب عمله وما لا يجب عمله، واستخدام الفساد كآلية للتطويع والإخضاع، وقد اتخذ ذلك -مثلا- طابعا علنيا مستفزا من خلال تلويح إدريس البصري بملفات فساد المنتخبين. - إغراق الجماعات في منطق الخدمة الزبونية كبديل عن الخدمة العامة، وحرمانها من إمكانات الحياة، واعتماد تقطيع غير موضوعي، واستعمال البناء العشوائي كأداة لجلب منافع مادية وسياسية وأمنية وانتخابية، وتحويل التدبير المفوض إلى تفويت مطلق لا يحفل بدفتر تحملات ولا يطاله تتبع. - التكرار الممل لسيناريو ظهور أحزاب يقودها أشخاص مقربون من السلطة وتنال، بين عشية وضحاها، موقعا انتخابيا متقدما، بشكل مجّه ذوق الكثير من الناخبين الذين يعتبرون أننا أمام استعراض فرجوي سيّىء الإخراج وعديم المصداقية من الزاوية السياسية. إذن، قد تبدو مستندات العزوف الانتخابي مؤسسة على قواعد متينة ومقنعة للوهلة الأولى، ولكننا إذا ما اخترنا عدم المشاركة في التصويت يجب أن نسمح لأنفسنا بتخيل خاتمة المطاف ونهاية المسلسل، وبمعنى آخر يجب أن نكون مستعدين لتحمل مسؤولية الآثار التي ستنجم عن امتناعنا، وتقبل كل عواقبه. فهل كل الذين يهجرون صناديق الاقتراع يدرجون عملهم في تصور بديل ويرتضون نتائجه. هناك في المجتمع قوى تعتبر أن تجذر نزعة المقاطعة ستُفضي، في نهاية المطاف، إلى انهيار مرغوب فيه لكل شيء، وبذلك تتحقق «القومة الكبرى»، ولكن أكثر الناخبين ربما لا يضعون بالضرورة سلوكهم ضمن هذا التصور. هناك -مثلا- طبقات وسطى وفئات متنورة غاضبة من أداء القوى الديمقراطية ولكنها متشبثة بخيار الحداثة والحرية بقدر تشبثها بدينها وهويتها، ولا تدرك أن ضعف المشاركة وحده -وليس اتساع الشعبية- يمكن أن يؤدي إلى تعزيز التواجد المؤسسي لقوة ستطالب المجتمع، فيما بعد، بتقديم تنازلات عن مكتسبات يعتقد أنها نهائية. فلا يكفي أن يكون «برنامج» تلك القوة العام غير واقعي مثلا، ولا يكفي أن يكون أغلب المغاربة غير راضين عن رؤيتها، بل إنها في المؤسسات، وباسم الشرعية الانتخابية ستحاول -وهذا من حقها طبعا- إعطاء الانطباع بتشبثها ببرنامجها، وبما أنها تعي صعوبة تطبيقه، فإنها ستلجأ، كما هي العادة، إلى ادعاء وجود مؤامرة داخلية وخارجية ضدها لمنعها من هذا التطبيق، وستكتفي بالشق الذي يمثل تعويضا رمزيا، فيكون ذلك على حساب الحرية وحقوق المرأة، لأنه المجال الأسهل لتشخيص التعويض الرمزي، ولأنه يمثل ما تبقى لها من تميز. وعندما ينتفض الناس دفاعا عن حرياتهم الشخصية، سيُوَاجَهون بالمنازعة في إسلامهم، وسيُعتبر كل معارض خارجا عن الجماعة ودينها، مما قد يخلق جوا من الرعب، فتهرب بعض رؤوس الأموال، وتظهر مشاكل في العلاقة مع العالم واضطراب في مرافق الحياة العامة. وقد يتم قمع هذه القوة باسم الدفاع عن الحرية والنظام، فيمثل ذلك اعتداء على حكم صناديق الاقتراع، فنصبح أمام منزع ديكتاتوري. وقد لا تصل أية قوة إلى موقع أغلبي في المؤسسات، إلا أن التآكل المستمر لمصداقية هذه الأخيرة، بسبب تواصل العزوف الانتخابي وانفصالها عن هموم الناس وحاجاتهم، وعجزها عن أن تكون مجالا من مجالات الصراع السياسي والاجتماعي سيجعلان هذا الصراع يتجه نحو أشد أشكاله وحشية، مما قد يؤدي إلى انفجار أو تحلل مطلق واختناق مسالك الحوار، وهبوب عواصف هوجاء تأتي على الأخضر واليابس. فما هي الضمانات لكي تكون نتائج الانفجار العام -إذا ما حصل غدا- لصالح الفئات التي لا تصوت اليوم، وما هي الضمانات لكي يكون وضع هذه الفئات بعد الانفجار أحسن من وضعها قبل الانفجار؟ إن مسلسل التغيير السلمي والتدريجي، المستند إلى تلازم النضال خارج المؤسسات بالنضال داخل المؤسسات، يرمي إلى فتح المجال لبناء انتقال ديمقراطي في بلادنا بدون المرور عبر جراحات أهلية غائرة أو عبر كارثة وطنية أو مأساة عامة. إذا كان هناك من ينتظر الانهيار الشامل لكل شيء، فإن الطبقات المتوسطة عادة تريد التغيير الذي يراكم القواعد الإيجابية المتاحة ويكثفها ويوظفها لإنجاز خطوات نوعية جريئة إلى الأمام، ولكن سلوكها الانتخابي أحيانا يقع ضد مصلحتها. إن مصير الديمقراطية والديمقراطية المحلية من بعض الوجوه أصبح اليوم يوجد بين أيدي تلك الطبقات. إذا كنا غير راضين على أداء حزب أو أحزاب معينة، فهناك دائما حل: نصوت، مثلا، على «الأقل سوءا»، وننظم أنفسنا كمصوتين في هيئات لتتبع الذين صوتنا عليهم ومراقبة سلوكهم عبر شبكة جمعيات الأحياء التي يتعين أن تتسع وتمتد، وعبر باقي هيئات المجتمع المدني القائمة. وبذلك أيضا نؤسس النموذج المغربي في الديمقراطية التشاركية.