قال لي (عزيز) من (أحفير) إن أخاه شحن في قلب باص حتى يصل إلى باريس، فخر مغشيا ووصل نصف ميت! فلما أفاق قال: الحمد لله على مدينة النور والحريات! أما سيدي محمد من (مركز أحد أولاد أزباير) فقد ركب قوارب الموت إلى بلد ألفونسو السادس عشر، وبقي مختفيا عدة سنوات، حتى منّ الله عليه بالأوراق. فأصبح مقيما في الاتحاد الأوربي، يحمد الله على الأمن والرزق والكرامة. إن قصص النزيف والهروب الكبير من ديار الإسلام إلى الكفر تراجيديا كاملة، وأنا شخصيا قلدت إبراهيم أبو المهاجرين فقلت: إني مهاجر إلى ربي، وهكذا غادرت بلاد البعث إلى يوم البعث. وأذكر ذلك اليوم المجيد حين دخلت قاعة القسم لأخذ الجنسية!! كانت القاضية الكندية تنطق بكلمات واضحة بطيئة تكررها باللغتين الفرنسية والإنجليزية: أيتها السيدات والسادة نحن نعلم الرحلة الصعبة التي قطعتم، والأوطان الغالية التي فارقتم، طمعاً في مصير أفضل لتستقروا في هذا البلد الرائع. أيها الناس نحن فخورون بهذا الاستقطاب لثمانين إنسانا ينتمون إلى ما يزيد على ثلاثين جنسية؟ تابعت: دخلتم هذه القاعة مهاجرين، وتخرجون منها مواطنين مثلي لا أتميز عنكم بشيء. الحق أقول لكم ادخلوا هذا البلد بسلام آمنين، واعتنقوا الدين الذي به تؤمنون، وتنقلوا واعملوا في أي مكان تحبون، وادخلوه وغادروه في اللحظة التي ترغبون، تعلموا قول الحق والعمل به، وفي ذلك لومة لائم لا تخشون. علموا أولادكم ذلك، وعلى محاربة كل ألوان التمييز العنصري والجنسي كونوا حريصين. في النهاية ختمت القاضية خطبتها: والآن قوموا فليسلم بعضكم على بعض؛ فقد أصبحتم بنعمة الله إخوانا. عندها لم يتمالك معظم من في القاعة عن إمساك دموعهم، مبللة بذكريات مؤلمة من دول الخوف والبطالة والحبوس والفلق. وقل أعوذ برب الفلق. كان أكثر الباكين شهيق عائلة فلسطينية، ملأت مآقيها الدموع! واحمرت منها الأحداق. كانت الخطبة تذكر ببيعة الصحابة لرسول الله ص؟! ... هذا الكلام ليس دعاية للهجرة إليها، فكندا في غنى عنها، والناس يهرعون إليها من مشارق الأرض والمغارب، بأشد من جذب المغناطيس لبرادة الحديد بين قطبين، جذب وطرد: يأس من وطن لم يبق فيه مكان للمواطنة، وأمل في وضع القدم في أرض الميعاد. لماذا يغادر الكندي بلده ويعود إليه في أي وقت يشاء وبدون تأشيرة؟ إن هذا يعود إلى مرسوم (الحريات والحقوق) التي تسلم باليد كأول وثيقة مع تهنئته على الجنسية، تتضمن حقه في أن يغادر بلده كما يحلو له؛ فالوطن بيته، ومتى يسأل الإنسان وممن يأخذ إذناً بمغادرة بيته أو الإيواء إليه؟ أما الحدود العربية فقد تحولت إلى أسوار شاهقة، لسجون كبيرة، تطل منها سحنة موظف عابس كاره لعمله، تحتجز مواطناً مسكيناً ويتيماً وأسيراً؟ لدول تئن تحت العجز المالي، ميزانيتها بيد عصابات من المافيات، تمد يدها إلى آخر قرش من جيب مواطن مفلس! فمن أصل 22 دولة عربية يتراجع النمو في 17 منها، في وقت يتضاعف فيه السكان مرتين، حسب كتاب (فخ العولمة) في مطلع ألفية لا مكان فيه للعرب، حسب شهادة المؤرخ الأمريكي (باول كينيدي) في كتابه (الاستعداد لدخول القرن الواحد والعشرين) .. إنها أجراس إنذار مفزعة لأناس فقدوا حاسة السمع؟ ما معنى تسرب الكفاءات وهرب رؤوس الأموال ونزيف الأدمغة وصدور أفضل الكتب والمجلات تطبع بالحرف العربي في مكان لا يوجد فيها ناطق واحد باللسان العربي؟! إنها رواية بائسة عن وطن بلا دماغ! فهل يمكن لكائن ممسوخ من هذا النوع أن يعيش في وطن تحول إلى مقبرة، يعس فيها نباش قبور، وهوام تدب في جثث متعفنة؟ يقول المثل القوقازي: من يفقد وطنه يفقد كل شيء، مثل جنين بدون حبل سري ومشيمة ثقافية، يمشي فوق أرض بدون جاذبية، مكباًً على وجهه، فقد التوازن الخلاَّق، في وطن يرجع إلى الخلف، ومواطن يمشي على رأسه بدون أن يشعر بالدوار؟ إن من يمشي على رأسه يفقد رأسه ورجليه معا! إنها ورطة من نوع محير فلم يعد الشرق يعجبه، ولا الغرب يسعده، فهو يعيش نفسياً في الأرض التي لا اسم لها؟ ما معنى تدفق المهاجرين العرب إلى كل أصقاع الأرض يشكلون %10 من سكان مونتريال في كندا وهم لا يعلمون؟ يحلمون بجنة أرضية جديدة، بعد أن غادروا وطنا تحول فيه بعضهم لبعض عدو، بلجوء جوع إلى السويد وألمانيا، أو استعداد الفتاة للقفز مع أي رجل إلى المجهول، هرباً من بلاد الجوع والبطالة، وجمهوريات الخوف والمخابرات، أو شراء جوازات سفر من الدومينيكان والأرجنتين، بعشرات الآلاف من الدولارات بدون تواجد، في تحصيل جنسيات لعائلاتهم يأمنون بها على أنفسهم في الشرق المنكود؛ لعلها تنفع يوماً إذا زلزلت الأرض زلزالها؟ لو فتحت السفارة الكندية أبوابها لهجرة مفتوحة بدون شروط في أي عاصمة عربية لزحف إليها كل إنسان بين 16 وال60 عاماً، كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي يقولون هذه فرصة لا تفوت؟ في فرار من سفينة تهوي في رحلة موجعة إلى قاع المحيط بأسرع من غرق التيتانيك؟ المواطن العربي لا يتمتع اليوم بأي حصانة، بما فيها الحاكم على رأس الهرم الاجتماعي، فلا ضمانة لأي إنسان أو شيء في أي مكان أو زمان، بدون أمل في معرفة الاتجاهات، معرضاً لهجوم أي حيوان ضار، في غابة تتشابك فيها الأكواع، تحكمه عائلات إقطاعية مسلحة، في وطن تفوح منه رائحة القلة والذلة والفوضى، في إحساس بالدوار، ويتنفس فيه الإنسان مع جزيئات الهواء جزيئات رجال الأمن، عن اليمين والشمال قعيد، يحصون دبيب كل نملة، وطنين كل نحلة، ولا تأخذهم سنة ولا نوم! لقد أصبح وضعنا مهزلةً للعالمين، في حجم النكتة بدون أن يضحك أحد. أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون؟ لقد عاش جيلنا كلاً من الوهم القومي الثوري وحمى الحركات الإسلامية وانتهى إلى إفلاس الاثنين، في مؤشرات حادة على أن حالة المريض تزداد سوءاً واختلاطاً، بدون دلائل انفراج في الأزمة، لينشأ جيل (الصدمة) أخطر ما فيه شعوره بأن العلم لا قيمة له، ولا يدفع مسغبة الجوع، في وقت تدفع فيه أرحام الجامعات شباباً عاطلين إلى شوارع مكتظة بالفقراء. ليس غريباً أن ينشأ تيار أشد من المكنسة الكهربية، يشفط كل العقول والأموال، في تيار أطلسي أقوى من ظاهرة النينو، باتجاه ديمقراطيات تضخ أكسجين الحياة، وتوديع ثقافة استبداد، تعيش عصر بيعة الخليفة العباسي، الواثق بالله، أن يركب رقبة شعب ولد أخرس يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً؟ لقد تحول الوطن في أحسن أحواله في عين المهاجر إلى وقت قصير للاستجمام، للتمتع بطقس جميل لا فضل فيه للجهد البشري، واستعادة ذكريات الطفولة، يعيش الفرد أجمل لحظاته في الطائرة إلى الوطن وعند الخروج منه، عندما يكتشف بمرارة أنه لا يستحق أكثر من إجازة فلقد كان فيما سبق وطناً، قد يتمنى أن يدفن فيه ولكن لا أن يعيش فيه بحال؟ هذا لمن استطاع الفرار، أما من كتب عليه البلاء والشقاء؛ فحكمه حكم الطاعون إذا دخل بلدا؛ فلا يخرج منه إلا جثة للآخرة!!