جمال الرويسي، عضو المجلس الوطني لمنتدى الحقيقة والإنصاف، ليس طبيبا شرعيا. ولكن القارئ سيفاجأ من خلال هذا الحوار، بأن له معلومات كثيرة عن هذا التخصص وكأنه طبيب شرعي. فالرجل راكم تجربة كبيرة في هذا المجال من خلال احتكاكه، داخل منتدى الحقيقة والانصاف، بملف المختفين مجهولي المصير (من بينهم أخوه عبد الحق الرويسي الذي اختفى منذ 1964)، و تدخل الطب الشرعي من أجل تحديد هويات أصحاب الرفات التي تم العثور عليها في السنوات الأخيرة... - تنتمون إلى المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف، وطرح عليكم داخل المنتدى الاهتمام بموضوع الطب الشرعي في علاقته بالكشف عن ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ما تقييمكم للطب الشرعي في المغرب؟ < الطب الشرعي في المغرب هو بطبيعة الحال قديم، اليوم الطب أصبح مجالا واسعا ويشمل تخصصات متعددة، ولكن السائد هو باثولوجيا الطب الشرعي، أي الطب الذي يشتغل على الرفات الحديثة العهد والتي لم تصل درجة عليا من التحلل أو الرفات التي أصبحت مجرد هيكل عظمي. في حين أن هناك تخصصات متعددة أخرى استعملت منذ عقود من الزمن، وهي أنثروبولوجيا الطب الشرعي التي هي عبارة عن دراسة تهتم بمقاسات الهيكل العظمي، وبالمخلفات المصاحبة للرفات، وبتحديد السن والجنس، أي أن هناك تقنيات متعددة في أنثرولوجيا الطب الشرعي التي تمكن من تحديد هوية الرفات وأكثر من هذا تحديد أسباب الوفاة وتاريخ الوفاة. - تحدثت عن مفهوم انتثربولوجيا الطب الشرعي، هل معنى ذلك أن هناك تخصصات وتفرعات داخل نفس التخصص؟ < بالإضافة إلى أنثروبولوجيا الطب الشرعي، كان يتم الاعتماد على تخصصات أخرى كأركيولوجيا الطب الشرعي وأيضا دراسة الأسنان المرتبطة بالطب الشرعي، لأن كل مكونات جسم الإنسان هي عبارة عن بصمة. نحن مختلفون عن بعضنا البعض. والآن انضافت إلى الطب الشرعي تقنيات جديدة هي وليدة نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وهي تقنيات تحليل الحمض النووي. هذه التحليلات هي أكثر وثوقية. في البداية كانت تجرى على الحمض النووي الحية، ولكن مع التطور الذي حصل، أصبح من الممكن إجراؤها حتى على الرفات التي توفي منذ آلاف السنين، مثل حالة أحد ملوك الفراعنة الذي تم تحديد رفاته وبدقة بواسطة تحليلات الحمض النووي، بالرغم من أن الرفات تعود إلى قرون قبل الميلاد. - وكيف هو الحال في المغرب؟ < في المغرب يتم الاعتماد بالأساس في مراكز حفظ الأموات وفي كل الحالات التي يراد الكشف فيها عن أسباب الوفاة، على باثولوجيا الطب الشرعي. كان لنا أستاذ متخصص وله خبرة كبيرة وهو الأستاذ الواهلية الذي كان يشتغل في القطاع العمومي. ولكنه اختار المغادرة الطوعية. تحليلات الحمض النووي لم تبدأ في المغرب إلا في 2004 من خلال التحقيق في جريمة متسلسلة شهدتها مدينة الدارالبيضاء. أما التحليلات التي أجريت على الرفات في تفجيرات الدار اليبضاء يوم 16 ماي 2003، فقد أجريت في بلد أجنبي. تلك التفجيرات أثارت الانتباه إلى ضرورة إنشاء مركز لتحليل الحمض النووي، وأنشئ مركز الشرطة العلمية في 2003. - ولكن ماذا عن دور الطب الشرعي في المغرب في الكشف عن حالات الاختفاء القسري؟ < هذا مهم جدا. إن طرح الطب الشرعي يرتبط بملف التصفيات الجسدية، وبعمليات الدفن الجماعي. وكانت أولى التجارب هي التجربة الأرجنتينية في سنة 1983 بعد عودة الديمقراطية، إذ تم تشكيل لجنة للحقيقة التي اشتغلت مع عائلات الضحايا بشكل وثيق. ولجأت العائلات إلى أحد أخصائيي أنثروبولوجيا الطب الشرعي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، واستدعي إلى الأرجنتين وعمل على تأسيس فريق أنثربولوجيا الطب الشرعي بهذا البلد سنة 1984. في ذلك التاريخ لم تكن تحليلات الحمض النووي، وكان يتم الاعتماد على أنثروبولوجيا الطب الشرعي. وهذا الفريق الأرجنتيني يعتبر من الفرق الأكثر خبرة في العالم في ما يتعلق بتحديد هوية رفات المتوفين في ظل الاختفاء القسري، بل اشتغل في بلدان عرفت حروبا داخلية مثل يوغوسلافيا سابقا، واشتغل فيما يقرب 30 دولة في العالم. وله خبرة واسعة في أنثروبولوجيا الطب والتخصصات المرتبطة به وكذلك تحليلات الحمض النووي. وقد سبق لنا أن اقترحنا على المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان أن يتعاون مع هذا الفريق من أجل تحديد هوية رفات المتوفين، في ظل الاختفاء القسري بالمغرب. وفي أواسط التسعينيات أصبح من الممكن إجراء تحليلات الحمض النووي على رفات الهياكل العظمية وهو الذي سيمكن من التعرف بدقة على هوية المتوفين. -كيف قاربت هيئة الإنصاف والمصالحة ملف تحديد هويات المختفين مجهولي المصير؟ < في إطار عمل هيئة الإنصاف والمصالحة اعتمدت أساسا على شهود العيان وعلى شهادات الرفاق على أهمية هذه الشهادات في تحديد هوية الضحايا لإ أنها لا تصل إلى مستوى التحديد اليقيني لهوية الرفات التي تم العثور عليها. وهنا يأتي إلحاح عائلات الضحايا ومنتدى الحقيقة على ضرورة إجراء تحليلات الحمض النووي من أجل التحديد اليقيني لرفات المتوفين. وكانت أول عملية لاستخراج رفات متوفين من أجل أخذ عينات، تمت في 2005 عندما تم فتح المقبرة الجماعية لضحايا سنة 1981 بالوقاية المدنية بالدارالبيضاء، وتم أخذ ما يقرب 80 عينة، ثم مباشرة بعد ذلك، تم فتح قبرين مفردين بمقبرة سباتة بالدارالبيضاء، وهما قبران وقع الشك حولهما بأن يكون أحدهما لعبد الحق الرويسي. وهنا يمكن أن أضرب مثلا على ما يمكن أن تقدمه أنثروبولوجيا الطب الشرعي من نتائج وأجوبة بإمكانها أن تحدد هوية الرفات. في حالة عبد الحق الرويسي، كنا أمام قبرين بحضور الوكيل العام الملك، ومختصين في الطب الشرعي. تم فتح القبر الأول، وتبين لنا أنه لا يتعلق بعبد الحق الرويسي، لماذا؟ حتى بالنسبة لأطباء الطب الشرعي لهم معارف حول أنثروبولوجيا الطب الشرعي، ولكنهم ليسوا مختصين. - كيف ذلك؟ < الطب الشرعي هو تخصص ولكنه يظل عاما وهناك تخصصات دقيقة في الطب الشرعي لا يتوفر عليها المغرب إلى حد الآن، وهي التي تعطي الإمكانيات لتحديد الهوية وتحديد أسباب الوفاة وجمع الدلائل عن الجريمة. بالاعتماد على العناصر العامة التي يمتلكها الأطباء الشرعيون استطعنا أن نعرف أن القبر الأول الذي فتحناه لا يتعلق بعبد الحق الرويسي، لأن هذا الأخير كان شابا وعمره 25 سنة وقت اختفائه. والحال أن صاحب القبر الأول لا يملك أي سن. طرح احتمال أن يكون قد تعرض لعنف وهذا العنف أدى إلى سقوط أسنانه. إذا كان هذا العنف قد أدى إلى تحطم أسنانه، فإن اللثة تحتفظ بحفر الأسنان. بينما الشخص الذي وجدناه كانت لثته قد شفيت شفاء تاما وبالتالي فإن أسنانه قد سقطت منذ مدة طويلة، بينما الفارق بين اختفاء عبد الحق ودفن تلك الجثة هو فارق قصير جدا يعد بالساعات، فهو تم العثور عليه في بداية أكتوبر مرميا في أحد أحياء الدارالبيضاء ونقل إلى مركز حفظ الأموات بعين الشق آنذاك، وبالتالي كان يتوفر على جميع أسنانه وتبعا لذلكً تم إبعاد احتمال أن تكون تلك الرفات لعبد الحق الرويسي. - إلى أي حد توفقتم في تحديد جثث ضحايا سنوات الرصاص؟ < استخرجت رفات عبد الحق الرويسي ووزان بلقاسم وبعد ذلك تم استخراج عدد كبير من الرفات لأخذ عينات خاصة، سن قاطع ومقطع من عظمة الفخذ، وهما العنصران اللذان يمكن من خلالهما استخراج الحمض النووي من خلال استعمال تقنيات جد متطورة. لحد الآن تم أخذ أكثر من 180 عينة تحت إشراف القضاء المغربي والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. وطرحت مسألة إجراء تحليلات الحمض النووي على هذه العينات، في حين أن المغرب لم يكن يتوفر على أي مختبر يمكنه أن يقوم بتحليلات على هياكل عظمية مرت عليها عقود من الزمن. تمسك المغرب والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بضرورة أن يعتمد المغرب على نفسه في إجراء مثل هذه التحليلات، وهذا يتطلب منه تجهيز مختبر وتكوين خبراء. وبالفعل تم تجهيز مختبر الدرك الملكي بالإضافة إلى المختبر العلمي وتكوين أطر في الميدان. ورغم ذلك كانت النتائج مخيبة لكل الآمال في الكشف عن هوية الرفات من خلال العينات التي أخذت من القبور، سواء قبور المقبرتين الجماعيتين لسنة 1981 والمقبرة الجماعية بالناظور 1984، أو بالنسبة للقبور المفردة سواء كانت ملحقة بمعتقلات سرية مثل حالة معتقل تازمامارت، أو في مقابر نظامية مثل حالة المتوفين في معتقل أكدز. - لحد الآن لم يتم التوصل إلى أي نتيجة؟ < يجب التمييز بين تحليل الحمض النووي لأحياء أو لأموات متوفين حديثي العهد بالوفاة، حينها تكون صالحة للاستغلال، إذ يمكن أخذ عينة من الحمض النووي من فرشاة أسنان، كما يمكن الاعتماد على عينة من اللعاب بالنسبة إلى الأحياء. وفي ظرف 24 ساعة يمكن الحصول على النتائج، وأصبحت هذه التقنية في المتناول، ويتم إجراؤها بالمغرب في مختبر الدرك الملكي ومختبر الشرطة العلمية وكذا بمستشفى ابن رشد، فيما أعتقد. بينما إجراء تحليلات الحمض النووي على رفات مرت عليها سنوات وعقود هي عملية معقدة من حيث التقنيات والأدوات والمواد المستعملة ومن حيث الخبرة العالية التي تتطلبها، وهي أيضا عملية مكلفة ماديا. -ومع ذلك قمتم بها؟ < أجل، تم إجراء العملية، وكان من المنتظر أن تظهر النتائج في يونيو 2008 بعد سنتين ونصف، ولكنها كانت مخيبة للآمال وتم الإعلان عن العجز عن ذلك. وبالتالي أعلن رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في الدورة الأخيرة للمجلس أن تحليلات الحمض النووي ستتم خارج المغرب في أحد المختبرات الفرنسية، مع أننا قبل ذلك دعونا في لقاء مع المجلس الاستشاري في مارس 2006، إلى التعاون مع الفريق الأرجنتيني. لم يتم هذا الأمر. وهناك مقترحات أخرى للتعاون، مع الصليب الأحمر الدولي وغيرها. - لابد أ نكم تواجهون مشاكل؟ < المشكل الذي نعانيه هو أن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان لا يتواصل مع المجتمع بالشكل الكافي في هذا الملف. من المحتمل أن يكون المجلس يقوم بمجهودات كبيرة ولكن لا يتم التعريف بها. فنحن الآن لا نعرف عدد العينات التي تم إرسالها إلى الخارج من أجل تحليلها. هذه التفاصيل المهمة غالبا ما يكون لها تأثير سلبي على تقديرات وعمل المجلس الاستشاري بحد ذاته، بالرغم من أنه يقوم بعمل جيد. وفي الأخير أريد أن أركز على نقطة أساسية. فنحن نميز تحديد الهوية الشخصية للمختفين (من هو؟)، ثم تأتي عملية تحديد هوية الرفات في حال العثور على الجثة. المشكل مطروح في ما يخص الاختفاء القسري. من خلال عمل هيئة الإنصاف والمصالحة تم تحديد رفات وأماكن عشرات، بل مئات المختفين، عدد منهم هويتهم الشخصية معروفة مثل محمد ساجد هويته معروفة وله انتماء سياسي معروف. ولكن في ما يخص الهزات الاجتماعية التي عرفها المغرب خاصة أحداث 1965 وأحداث 1981 بالدارالبيضاء وأحداث فاس 1990، هناك حوالي 200 قبر أو رفات موجودة ولكن لا نعرف لمن هي أصلا، أي أنه حتى في حالة أخذ عينة منها والوصول إلى نتيجة إيجابية في ما يخص تحليل الحمض النووي، فإننا لن نجد مع من نقارنها لكي تتحدد هوية الرفات، وهذا مشكل عميق جدا. في النتائج التي خلصت إليها هيئة الإنصاف والمصالحة، نجد أن الرفات التي تم العثور عليها في ما يخص الاختفاء خلال الهزات الاجتماعية تفوق عدد العائلات المطالبة بالرفات. وبالتالي يبقى عدد كبير من الضحايا مجهولي الهوية. بينما هناك حوالي 280 حالة وفاة لم يحدد قبرها بعد. ومن هنا جاءت قناعتنا في منتدى الحقيقة والإنصاف بأن ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لم يغلق بعد.