إننا نوجد اليوم أمام واحد من أعسر الامتحانات الانتخابية بالنسبة إلى الجميع.. لا فرق بين الأحزاب الكبيرة والأحزاب الصغيرة ولا فرق بين الدولة والفرقاء الآخرين لم يسبق في المغرب، ربما، أن تقدمت الأطراف السياسية إلى موعد انتخابي محملة بكل هذا القدر من الخوف والتوجس والرهبة. هناك من يتقدم إلى انتخابات 12 يونيو 2009 كما لو كان يتقدم إلى حتفه. جو من الذعر والقلق والتساؤل يرخي ظلاله على تحرك مختلف الفاعلين. إننا نوجد، اليوم، أمام واحد من أعسر الامتحانات الانتخابية بالنسبة إلى الجميع، لا فرق بين الأحزاب الكبيرة والأحزاب الصغيرة، ولا فرق بين الدولة والفرقاء الآخرين. فلا أحد يزعم بأنه يمسك بكل خيوط اللعبة ويتحكم في الوضع ويطمئن إلى النتائج ويتوقع كيف ستتطور الأحداث. طبعاً، في كل انتخابات هناك قدر من الخوف الذي يغمر المشاركين فيها، لأنهم لا يستطيعون توقع حصادهم فيها، ولأن الأمر مفتوح على جميع الاحتمالات، وهذا قدر الشأن الانتخابي الذي يوافق طبيعته كتبار أو معركة فيها دائماً رابح وخاسر، وفيها دائما حيز للمفاجآت. لكن الحال في المغرب، اليوم، لا يرتبط بهذه الصفة القارة للاختبار الانتخابي، بل هناك ما هو أكثر من ذلك: - فالخوف عام يشمل كل الأطراف، بينما العادة أن يوجد طرف أو أكثر أقل شعوراً بالخوف من النتائج وأكثر اطمئنانا لطبيعة المسار العام الذي ستأخذه العمليات الانتخابية. - والخوف شديد وظاهر، ويلتمع من خلال خطابات الفاعلين وسلوكاتهم وتشكياتهم وتحذيراتهم ونداءاتهم لقواعدهم بالتزام أقصى قدر من الحيطة والحذر، ومن خلال تقديرهم بأن هناك شيئا غير عادي وخللا معينا أصابا بلعنتهما الموعد الانتخابي المقبل. لا مكان للارتياح المسبق، فالخوف هو سيد الموقف، وهو المسيطر على شعور الفاعلين. وكل واحد منهم يعتبر أن هناك، على الأقل، داعيا أساسيا من دواعي الخوف الذي يستبد به. فالدولة، مثلاً، خائفة من أن تتسع المقاطعة وأن تتحول إلى سلوك عام أصلي للناخب وعادة قارة وثابتة، وبذلك تفقد المؤسسات المنتخبة مصداقيتها، وتنفصل أكثر عن هموم الشعب وحركة الشارع. ويصبح الشكل الوحيد لدى الدولة لتلمس أعطاب السير العام وآثار سياساتها وللتعرف على مطالب وأفكار واهتمامات المواطنين هو الإنصات لما تقوله التظاهرات والاعتصامات والإضرابات، حتى ولو لم تخضع لتأطير هيئات وأدوات منظمة قانونيا. الدولة تخشى استمرار مسلسل المقاطعة الانتخابية لأن ذلك سيجعل الانتخابات بدون معنى، وحتى لو حاولت البحث عن تبرير للظاهرة لا يضعها في قفص الاتهام، فإنها لا يمكن، نهائيا،ً أن تتجنب وطأة المقاطعة باعتبارها أيضاً حكماً على النظام السياسي، وعلامة على ما يشبه العصيان المدني الصامت، واستهانة بدعوات الدولة وبخطابها، ومؤشراً على انبثاق شرخ في علاقة الدولة بالمواطن. إن اتساع العزوف الانتخابي، رغم انتظام المسلسل الانتخابي وهجر بعض أساليب التدخل التقليدية للدولة وتكثيف الترسانة القانونية المؤطرة والإجراءات الرسمية المعلنة كعتاد لمواجهة العمليات اللانظامية، معناه أن ذلك كله لم يسمح بعد بوضع الأصبع على مكمن الخلل وتشخيص أصل الداء في الجسم الانتخابي المغربي. إن صمود نزعة المقاطعة في وجه ثقل الخطاب الرسمي الداعي إلى المشاركة يطرح التساؤل عما إذا كانت هناك أطراف أخرى خارج اللعبة (الإسلاميون غير المشاركين، مثلاً) تنجح في تغذية النزعة وتعهدها، بمعنى أن عملها أصبح منتجاً. والدولة تخشى أن تؤدي انتخابات 12 يونيو إلى تعزيز نفوذ الإسلاميين المشاركين في الانتخابات، بالشكل الذي يخلق وضعاً سياسياً جديداً بالبلاد، ليست مستعدة لتحمل تبعاته وامتصاص ضرباته. إن نجاح العدالة والتنمية في تسيير المدن الرئيسية في البلاد سيعني، من جهة، قلب معادلة سياسية في البلاد تعتبرها الدولة أساساً للتوازن؛ وسيعني، من جهة ثانية، مرور الحزب المذكور إلى مرحلة تأبيد وإدامة تفوقه الانتخابي وتبلوره كقوة نيابية متقدمة، لأن القاعدة، اليوم، أن من يتحكم في المجالس الجماعية هو من تُفتح أمامه بسلام طريق التحكم في البرلمان، أي أن الحكومة الإسلامية على الأبواب، وهو ما لم تتهيأ بعد شروط استيعابه، لذلك فأقصى ما يمكن انتظاره اليوم هو مشاركة إسلامية في حكومة «غير إسلامية». والتحكم في الجماعات يعني احتلال مواقع التسيير، وهو ما يلهث وراءه حزب العدالة والتنمية بأي ثمن، ومع أي جهة كانت، بما فيها حتى تلك التي يفتقر سلوكها الانتخابي إلى ضوابط الشرعية الأخلاقية (وبالتالي الدينية). الإسلاميون المشاركون في المسلسل الانتخابي يتخوفون مما قد تحمله معها مجريات اقتراع 12 يونيو، فهم متخوفون من طبيعة الأساليب الجديدة التي قد يتم ابتداعها للمزيد من محاصرتهم. لقد وُوجهوا من قبل بحملة ممنهجة لإضعافهم والمس بصورتهم، ولا يدرون ما هي المفاجآت السيئة التي قد تواجههم يوم الاقتراع وهل سيصل الأمر إلى حد التزوير المباشر، علما بأن حزب العدالة والتنمية إذا حصل، مثلاً، على المرتبة الأولى في المدن الرئيسية بالبلاد، فإن ذلك لن يجعله، بالضرورة، ينعم بحق تسييرها جميعاً، بل قد لا يسير أية جماعة إذا ووجه في مختلف المناطق باصطفاف حزبي مناوئ، يحرمه من جني ثمرة فوزه الانتخابي. وأحزاب اليسار المشارك في الحكومة خائفة أيضاً، وفي طليعتها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يخشى أن تكون نتائج 2007 مجرد نقطة بداية في مسلسل تدحرج انتخابي متواصل، ويخشى ألا ينجح في «وقف التدهور الانتخابي». الاتحاد يريد أن يثبت أنه خرج من أزمته بعقد المؤتمر الوطني الثامن، وأن نتائج الانتخابات السابقة كانت حالة عارضة وكبوة توفق في تجاوزها. لكن الاتحاد لا يُخفي، في نفس الوقت، ارتباك استراتيجيته الانتخابية، فهو، اليوم، لا يمكن أن يعول كثيراً على «استيراد الأعيان» من الأحزاب الأخرى كما حصل في انتخابات 2003 التي تقدم إليها وهو حامل لقب «الحزب الأول» الذي منحته إياه نتائج 2002، وهو لا يستطيع ضمان بقاء ولاء الأعيان الذين سبق لهم أن ساندوه في الماضي بحكم إمكان انتقال ولائهم إلى «الوافد الجديد»، خاصة وأن عدداً من مناضليه نازعوا خلال المؤتمر الثامن في استراتيجية جلب الأعيان واستعمال وسائل الآخرين-رغم مردودها النيابي الواضح ولكن غير المضمون اليوم- في وقت خطا فيه الحزب خطوة رمزية في اتجاه المعارضة برفع شعار الإصلاحات الدستورية والملكية البرلمانية وبانتقاد سلوكات رسمية يعتبرها رجوعاً إلى الوراء. الاتحاد الاشتراكي، لم يعد يبالغ في التفاؤل بصدد حيادية الأجهزة الإدارية للدولة إزاء العملية الانتخابية، ويعتبر ربما أن هذه العملية يمكن أن تنزلق إلى دائرة الاشتباه والشك، وهو لا يعبر، اليوم، عن طموح انتخابي عريض بل يتمنى ربما مواصلة الحفاظ على نفس مواقعه السابقة في انتظار ظروف أفضل، خاصة وأن خطته في التعاون الانتخابي مع حلفاء آخرين من اليسار لم تثمر، على ما يظهر، نتائج باهرة، رغم ما قد تنطوي عليه من دلالات باعتبارها مؤشراً على دخول مرحلة جديدة. وأحزاب اليسار المعارض خائفة هي الأخرى، فقطاع واسع منها يدرك أن مصيره مرتبط بمصير الاتحاد الاشتراكي، لكن هذا الإدراك لم يكن كافياً لمنح خيار التعاون مع الاتحاد أثراً ملموساً على الأرض. وعتبة 6 ٪، المطلوبة لتوزيع المقاعد على اللوائح، تؤدي موضوعياً إلى تخوف اليسار المعارض من الاندثار وفقدان أي موطئ قدم في المؤسسات. وهذا اليسار لازال متأثراً بصدمة 2007، ولم يكن له الوقت الكافي لبلورة استراتيجية تحالفية جيدة للحفاظ على الوجود، رغم الوعي المتزايد لديه بأن الظرف الحالي يحتاج إلى المزيد من لحم الطاقات والجهود. إن اليسار المعارض هو أكبر متضرر من العزوف الانتخابي، فرغم أن تطورات الأوضاع أكدت صواب تحليلاته، فإن ذلك لم يكن كافياً لحمل الناخبين على مساندته في الانتخابات التشريعية، علماً بأن الانتخابات الجماعية، نظراً إلى خضوعها أكثر للاعتبارات المحلية والعلاقات الشخصية، فإنها تمثل تمرينا أعقد وأصعب بالنسبة إلى أحزاب اليسار المعارض. وحزب الاستقلال أيضاً خائف. قد يقول قائل إنه يوجد في وضع مريح، فهو الحزب الأقوى انتخابياً وهو يشغل موقع الوزير الأول، ويتوفر على وسائل قارة لضمان تفوقه الانتخابي وله أعيانه الذين ولدوا من رحمه، وطبيعة الانتخابات الجماعية تتوافق مع بنيته التنظيمية. ومع ذلك، فإن بعض نخب الحزب الجديدة، ذات النزعة المحاربة والتي تعتمد في معاركها الانتخابية نوعاً من التجييش، يمكن أن تتسبب في ظهور تجييش مضاد وتورط الحزب في مواجهات غير محسوبة العواقب مع خصومه، خاصة وأن عدد هؤلاء يتزايد باستمرار، فهناك الناقمون على أداء الحكومة، والمحبطون من نتائج الحوار الاجتماعي، وأصحاب المطالب التي لم يُستجب لها، والمتأثرون بالحملات النقدية المتصاعدة ضد الوزير الأول. كل هؤلاء يمكن أن يشكلوا عنصر إزعاج للحملة الانتخابية لحزب الاستقلال، في وقت لا تريد فيه قيادة هذا الأخير أن يمثل الشارع، بمناسبة الانتخابات، مسرحا لردود فعل البعض ضد الإساءة التي لحقته عبر حملات تشهير خيضت باسم حزب الاستقلال. وحزب الأصالة والمعاصرة خائف من أن تؤدي وقائع الانتخابات المقبلة إلى تعميم وتأكيد الانطباع بأنه مجرد استنساخ لأحزاب الدولة السابقة، وبأنه تجميع لقطع غيار قديمة واستمرار لممارسة سياسية تنتمي إلى الماضي. إن الحزب يخشى نوعاً من العزلة في أوساط معينة، هي أوساط الفئات المتنورة والنزيهة والمستقلة في تفكيرها ورؤيتها، ويخشى أن تنطبع صورته إلى الأبد بدمغة السيناريو المكرر والخالي من أي جديد فاضل. والأحزاب المعروفة، تقليديا، بالإدارية خائفة من أن يلتهم حزب الهمة أعيانها، وأن تبذل له الدولة عونا خاصاً، وأن تُساق هي إلى وضع أحزاب الدولة من الدرجة الثانية. وهي أحزاب خائفة على مصيرها ومآلها ولا تعرف ماذا سيصنع الله بها، فإذا تقرر أن يبتلعها الوافد الجديد، فإن مصالح قادتها وبعض رموزها ومسيريها ستُضار من ذلك، وخاصة بعد عقود من وجودها الذي ترتبت عنه أوضاع ومصالح. إنها تعرف مسبقاً أن «قوة» الأصالة والمعاصرة ستُبنى على حسابها، وأن ظهور الحزب الجديد هو إقرار بأن هناك من هو غير راض على أدائها. إن السر في هذا الخوف الغامر والمتبادل يكمن ربما في أننا لم نعش بعد انتقالاً ديمقراطياً تُحسم فيه قواعد اللعب بدون إكراه، وبشكل يرضي مختلف الفاعلين ويضمن التزامهم بتلك القواعد، وأننا لم نحسم بعد أطراف اللعبة ولم نمكن هذه الأطراف من أن تمسك مصيرها بيدها، ولم نجعل من الدولة تراثا مشتركا للجميع ووعاء لاستيعاب كل احتمالات وتطورات المسار الانتخابي..