تدرك أنقرة فجأة أن التحوّلات الاستراتيجية، التي تنشط ورشتها في المنطقة، تستدعي تحولات جذرية في مقاربة تركيا لعلاقاتها الإقليمية قبل الدولية. تخلت حكومة حزب العدالة والتنمية عن سياسة «تصفير» المشاكل مع الجوار (وفق عقيدة أحمد داوود أوغلو)، وراحت تحفرُ الخنادق في رسم حدود أمنها الاستراتيجي على مساحات هيجت «نوستالجيا» عثمانية قديمة. وبين المتاح والمأمول يكتشف الحكم في تركيا عقم خيارات معتمدة، ويتوسل، بحنكة، تغييرا في المنهج والسلوك وفق المقولة الفرنسية الشهيرة: «الغبي فقط هو من لا يغير رأيه». مقابل التطورات الدراماتيكية في العراقوسوريا، تصرفَ أردوغان وصحبه بصبيانيةٍ وتسرع وتعجل على منوالٍ لا يتسقُ مع خط بياني حكيم مثَّلته تجربة حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى الحكم عام 2002. انتقل الحكمُ التركي من تقارب وتحالف متعجّل وسريالي مع نظام دمشق، إلى عداوة واحتراب علنيين نهائيين لا رجعة فيهما. أثارَ النظام التركي مظلومية السنّة في سوريا، فحرّك نظام دمشق حميّة وعصبية علوّيي تركيا؛ وأشرفت أنقرة بشكل مباشر، أو غير مباشر، على أنشطة المعارضة السورية، فاستندت دمشق إلى المعارضة التركية لمناكفة مزاج الحاكم في أنقرة. في العراق، جرى تحوّل تركي لافت قاد إلى صدام علنيّ إعلامي بين رأس السلطة في تركيا، رجب طيب أردوغان، ورأس السلطة في العراق، آنذاك، نوري المالكي. مارست الشخصيتان تمارين متقدمة في الردح وتبادل الاتهامات العصبية والمذهبية، على نحو جعل من المالكي رجل اللحظة بالنسبة إلى الشيعة، وأحال أردوغان، طبعا، إلى حامي حمى السنّة في العراق. وإضافة إلى رواج التقليعات المذهبية، دعمت أنقرة، دبلوماسيا واقتصاديا، خيارات إقليم كردستان على نحو استفزَّ بغداد وحاكمها. وفي الميدانيْن العراقي والسوري، حيث لتركيا أطول حدود برية ومصالح اقتصادية جيو-استراتيجية جمّة، تغافلَ الجانب التركي عن حقيقة أن معركته تجري بالوكالة ضد إيران ونفوذها في كلا البلدين. تعامتْ طهرانوأنقرة بخبث عن حدة التناقض والصدام الجاري بينهما، وجرى بسريالية تبادل الزيارات وتطوير التبادل التجاري وتعظيم المنافع المشتركة، وجرى برشاقة حذقُ تجاوز التباينات والالتفاف على الخلافات، وجرى تقديم التناقضات الجذرية والاستراتيجية (ولاسيما في المسألة السورية) بصفتها تفصيلا تافها «لا يفسد للودّ قضية». لم تعد تركيا تستطيع التحاذق في إغفال واقع تراجع وزنها في تحديد حاضر المنطقة ومستقبلها وفق الوِرَش القائمة. لم يحظ أردوغان بدعم نظيره الأمريكي باراك أوباما في خطته المتعلقة بسوريا، بما فيها إنشاء منطقة عازلة ومنطقة حظر جوي. وتقومُ دول التحالف ضد الإرهاب بقيادة واشنطن بتنفيذ استراتيجيات قصف جوي لا تأخذ بعين الاعتبار توجهات أنقرة أو خياراتها (هل يجب التذكير بتحفظ تركيا على الالتحاق بالتحالف في البداية). أما الهمّة الدبلوماسية، سواء بالطبعة الأممية بقيادة ميستورا أو الروسية التي يشرف عليها بوغدانوف أو المصرية التي تنشط في القاهرة، فقد أهملت ما كانت تراه تركيا من خطط للإطاحة بنظام دمشق. وأما في العراق، فتسير التبدلات العراقية، منذ إبعاد المالكي وتعيين حيدر العبادي، وفق تقاطعات إيرانية أمريكية لا شأن للأتراك بها. حشرت تركيا-أردوغان نفسها، بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر، في حيّز ضيق أصابها بعزلة عن المزاج العربي الرسمي العام. ابتعدت الدول الخليجية التي دعمت الرئيس عبد الفتاح السيسي عن أنقرة، وبات التوتر ظاهرا بين الرياضوأنقرة على نحو أخذ، في بعض الأحيان، أبعادا علنية. زادت الخيارات التونسية من حرج الخيارات التركية المحاصرة بمواقف إيديولوجية لا تتسق مع ما يفترض أن تتحلى به دولة إقليمية كبرى كتركيا. وجدت أنقرة نفسها متخبطة في ميدانيْ سورياوالعراق، ركيكة التواصل مع دول المنطقة، عاجزة عن منافسة الاختراقات الإيرانية، التي باتت «ضرورية»، معترفا بنجاعتها دوليا، في زمن الحرب ضد داعش. يعتمدُ الحكم في تركيا على خطاب سنّي (منافس لذلك السعودي) كان علنيا واضحا في مقاربة الشأنين العراقي والسوري. بدا أن أنقرة باتت تستثمر في ميادين عدة لتعظيم شبكتها داخل أوساط السنّة في العالم العربي عموما (بما فيها الصومال)، من خلال جماعة الإخوان المسلمين، وداخل الدول المجاورة في العراقوسوريا (ولبنان) من خلال الجماعات الإسلامية (بما فيها داعش حسب اتهامات تكيلها الأوساط القريبة من إيران). يصطدم الاعتماد على سنّية المسعى والمنهج، حكما ومنطقا، بالشيعية السياسية التي تقودها طهران دون خجل أو التباس. وعليه، فإن صدام المنهجين بات حقيقة واقعة تستلزمُ اصطفافاتٍ واضحة المعالم لا يشوبها ما يناقضها أو ما يخصّبها بالتباس مربك. لا تستطيع أنقرة المضي في رؤيتها السنّية دون تواصل وتحالف موضوعي مع مصر ودول الخليج؛ ففي غياب ذلك، وهو واقع الحال، ما يتناقض مع أبجديات السياسة الخارجية وفق الرؤى التركية نفسها. ولئن ذهبت تركيا مذهبا بعيدا في مناكفتها للقاهرة كُرمى لعيون «الإخوان»، فإن تعديل تلك السياسة باتجاه التقارب مع القاهرة، التي يلمّح نائب رئيس الحكومة التركي إلى ضرورتها، مازال عصيا دونه اعتبارات لا يسهل تجاوزها في الظروف الآنية. بيد أن المقاربة التركية لشؤون المنطقة تروم الالتفاف على «المأزق» المصري وتحاشي ألغامه، باتجاه إعادة الوصل مع دول مجلس التعاون الخليجي عامة، والسعودية خاصة. لم يظهر التحوّل التركي اللافت هذا في رمزية قطع الرئيس التركي أردوغان لجولته الأفريقية للتوجه للمشاركة في جنازة الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، فإن أمر ذلك قد يندرجُ ضمن تصنيفات بروتوكولية صرفة. بدأت المقاربة التركية الودودة قبل ذلك، من خلال سلسة اتصالات قادت نائب رئيس الحكومة التركي بولنت أرنتش ووزير الخارجية التركي مولود جاويش إلى الكويت الشهر الماضي، فيما راج تحليل عن عزم تركيا، وبواسطة كويتية لإنهاء الخلافات مع دول الخليج (ومصر). في تلك الفترة جرى اتصال بادر به أردوغان مع الأمير سلمان، حين كان وليا للعهد، يسأل فيه عن صحة الملك عبد الله. كانت تركيا ترسلُ الإشارات الإيجابية إلى السعودية تحرّيا لوئام بغضّ النظر عن موقفها المتشنج إزاء مصر، كان واضحا أن الضغوط الداخلية التي تحاصر أردوغان من قبل المعارضة، كما العزلة التي تبعد مصر ودول الخليج عن تركيا، صارت تشكل قلقا حقيقيا لسيد أنقرة وصحبه. تعاملت الرياض مع خلافها مع تركيا بقناعة كاملة بأن الخلاف غير طبيعي، عرضي مؤقت (الملك سلمان هو من تولى ملف العلاقة بتركيا حين كان وليا للعهد ووزيرا للدفاع)، فيما خرجت في السعودية أصوات تذكّر بتاريخية العلاقة بين البلدين وحميميتها بين الرياضوأنقرة (كانت الناصرية والمدّ القومي البعثي يحمّلان تركيا مسؤولية قمع العروبة قبل الاستقلال). فتحت السعودية أسواقها أمام البضائع التركية وطورت علاقاتها مع تركيا (ودعمت أنقرة في أزمة قبرص) في وقت لم تكن تملك أنقرة فيه علاقات متقدمة بالقاهرة أو دمشق أو بغداد. تناقضت السعودية وتركيا في السنوات الأخيرة في مقاربة عدة ملفات، وقبل ذلك لم ترتح الرياض لموقف أنقرة المحايد والداعم لطهران والمتطوّع لوساطة بين إيران والغرب في مسألة الملف النووي. اختلف الطرفان، أيضا، في مقاربة الشأن السوري، على الرغم من اتفاقهما على إزاحة نظام بشار الأسد، وعملا بتنافس مسرف في تفعيل نفوذهما داخل الائتلاف السوري المعارض، أو لدى الجماعات العسكرية المعارضة لتغذية هذا التنافس. تم الحديث عن سحب / إقفال المراكز المخابراتية السعودية المشرفة على الملف السوري في تركيا، على نحو عكَس حجم الهوة التي تتسعُ بين الرياضوأنقرة. ومع ذلك، بقي الخلاف همسا تتناقله التقارير الصحفية ولم يصل إلى مستويات الردح العلني. ربما لاحظ المراقبون أن الجانب السعودي تلقف مبادرة الرئيس أردوغان في الالتحاق سريعا بجنازة الملك الراحل، وقام بإدخاله إلى المكان المخصص للأمراء أثناء صلاة الجنازة كعلامة اهتمام فوق العادة بالضيف التركي (أعلنت تركيا بعد ذلك يوم حداد على الراحل)، على نحو يوحي بأن ما هو عرضيٌّ مؤقت من تباين وخلاف بات ذكرى صار بالإمكان تجاوزها، وربما نضجت ظروف تحويلها إلى ما قد يشبه الحلف بغضّ النظر عن الموقف التركي - السعودي المتناقض من مصر. بات العامل الإيراني الذي يطل على العراقوسوريا ولبنان واليمن يلح على الجانبين بضرورة التحالف والتآلف والاتفاق على ما هو مشترك بين البلدين. أدرك البلدان محدودية قدراتهما على تعطيل خيارات بعضهما البعض، في وقت يتعزز فيه، باطراد، النفوذ الإيراني الروسي الداعم لنظام دمشق. وربما استشعرت السعودية جسارة الإطلالة الإيرانية على حدودها من خلال الحليف الحوثي في اليمن، لتقارب حلفا بات ضروريا مع تركيا يوحّد جهود الدول السنّية الأساسية في المنطقة، والذي لن تكون مصر، حُكما، بعيدة عنه يوما ما. يقتربُ البلدان، تركيا والسعودية، على نحو يقود إلى الإقرار بنفوذ وهواجس الجانبين. لن تستطيع تركيا أن تمررَ عثمانية لا تطيقُ المنطقة استعادة ذكرياتها، ولن تقدر السعودية على فرض خيارات تتناقض مع مصالح تركيا في المنطقة. وفي سعي البلدين النشيط للتوافق والتقارب رسالة إقليمية حازمة، ليس لإيران فقط، بل للولايات المتحدة وحلفائها، من مغبة إنزال اتفاق دولي مع طهران على المنطقة، لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح كتلة أساسية في المنطقة تبدأ في تركيا، ولا تنتهي بالمغرب مرورا بالأردن ومصر وكافة دول الخليج. قرأ المراقبون للعلاقات التركية السعودية تبدلا أساسيا في مزاج الرياض إزاء أنقرة، من خلال التغييرات الكبرى التي جرت في مواقع الحكم السعودي وفق مراسيم الملك سلمان. لوحظ أن الشخوص المعنية بشؤون الدبلوماسية والأمن تمثّل عهدا يتيح انفتاحا على تركيا. راقب أهل جدة وصول سفينة حربية تركية ترسو في مرفئهم من ضمن خطة مناورات مشتركة تطبيقا لاتفاق تعاون مشترك كان قد وقّعه الملك سلمان حين كان وليا للعهد وزيرا للدفاع (اللافت في وصول هذه السفينة الحربية التركية، اهتمام السفارة التركية من الناحية الإعلامية، حيث أرسلت دعوات إلى كل الصحفيين في المنطقة الغربية من أجل حضور تدشين الوصل). في السعودية من يستشعر علامات حلف قادم لا تخفى أبعاده العسكرية وما لذلك من تداعيات على التوازن الإقليمي العام. وفي السعودية من مازال يجد أن تضارب المصالح والرؤى بين البلدين مازال كبيرا قد لا يتسق مع تفاؤل المتفائلين. على هذا، جدير مراقبة كل تفصيل يومي في شأن تحوّل قيد التشكل بين الرياضوأنقرة.