يعبر المشهد الحزبي في كنهه عن مجموعة من التوجهات، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي من المفروض التعبير عنها في قالب سياسات عامة قوامها الجرأة والشفافية المبنية على التوجهات الديمقراطية البحتة، وهي التوجهات التي لا يمكننا بلوغ تنزيل مضامينها على أرض الواقع بدون فاعل سياسي مؤطر ومؤهل لخوض غمار الحياة السياسية. لقد اهتمت جل الأحزاب السياسية في الدول التي توصف بكونها متقدمة بشريحة الفاعل السياسي اهتماما تم تنزيل مضامينه من خلال وضع برامج تكوينية لفائدته، تمكنه من معرفة محيطه، وبالتالي العمل، إلى جانب المنظمات الحزبية التي ينتمي إليها، من أجل صياغة برامج حزبية تساهم في نشر الثقافة التشاركية لدى رعايا هذه الدول في صناعة القرار التنموي لبلدانهم، هذا علاوة على تمكنهم من استيعاب متطلباتهم واحتياجاتهم، الأمر الذي لطالما انتهى في آخر المطاف إما بمساندة سياسات الأحزاب الأغلبية إن رأت في برامجها سبيلا سالكا لبلوغ مطامحها، وإما بالقيام بجلد الأحزاب التي ترى في برامجها وممارستها وصمة عار ستعيب مسارها الديمقراطي وعبره التنموي، ومن ثمة التصويت ضدها، ولم لا المطالبة بمحاسبتها. يعد الفاعل السياسي بمثابة صمام أمان المشهد الحزبي في جل بلدان العالم، غير أن هذا الأخير في الدول المسماة متقدمة يختلف عن نظيره في الدول النامية أو حتى تلك السائرة في طريق النمو. ونسعى في هذا المقال إلى تسليط الضوء على واقع هذا الفاعل السياسي في بلادنا ومساهمته من عدمها في صناعة القرار الحزبي وعبره التنموي. المتأمل في منظومتنا الحزبية ذات النمط التعددي، وارتباطا بوضعية الفاعل السياسي فيها، تستوقفه مجموعة من الملاحظات نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: - تربع لوبيات حزبية على مراكز القرار الحزبي دون غيرها، وتجييشها أسرابا تصفق لتوجهاتها ذات الطابع النفعي الصرف، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل في هذا الباب عن الأسباب الكامنة وراء تجذر وباء الدكتاتوريات الحزبية التي لازالت تنخر جسمنا الحزبي، وتؤثر بالتالي على مصداقيته أمام المواطن الذي كلّ وملّ من رؤية الوجوه المستهلكة ذاتها، التي صارت تعتبر الأحزاب السياسية ضيعات خاصة، يورثونها الأبناء والإخوة والزوجات؛ - أحزاب سياسية تكني الممارسة الديمقراطية بالإجماع أو التوافق، الأمر الذي أعتبره شخصيا طامة كبرى، في زمن ما بعد الربيع الديمقراطي، ربيع جاءنا بدستور جديد قوامه المحاسبة والمساءلة الكفيلتان بتطبيق المنهاج الديمقراطي على الواقع السياسي. هذا الرأي لا يجب أن يعتبره القارئ مزايدة أو مغالاة من قبل الكاتب، إذ يكفي النزول إلى غمار الممارسة الحزبية كي يتم قطع الشك باليقين والوقوف على الواقع المزري الذي تعيشه أحزابنا السياسية؛ - سيادة منهاج التعيين في مناصب القرار الحزبي، إذ أصبحنا على علم بهوية من سيخلف السالف، وهو ما أعتبره خرقا سافرا لفحوى الديمقراطية الحقة، وإجحافا في حق الأطر والكفاءات الحزبية، وحتى في حق المواطن العادي؛ - تفريخ فروع حزبية يتم فيها إقحام أناس لا يعرفون حتى تاريخ المنظومة الحزبية التي ينتمون إليها، وهذا هو السبب الحقيقي في تفاقم ظاهرة العزوف السياسي ببلادنا، وخاصة في صفوف الشابات والشباب، إذ كيف لأشخاص غير مؤطرين أن يستقطبوا أطرا وكفاءات من داخل الفروع التي تم إنشاؤها من قبل الضيعات الحزبية التي ينتمون إليها! ولعل في ذلك ضربا للمسار الديمقراطي الذي انخرطت فيه بلادنا منذ بزوغ فجر الاستقلال، من جهة، وتبذيرا للمال العام الذي تقدمه الدولة إلى الأحزاب السياسية من أجل الاضطلاع بأدوارها، من جهة أخرى. وفي هذا الباب، تجدر الإشارة إلى أنه قد أصبحت الحاجة ملحة إلى تفعيل آليات المراقبة الصارمة على مالية هذه الأخيرة، وخاصة من قبل المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات... إلخ. لقد اخترنا "الكراطة الحزبية" كعنوان لهذا المقال رغبة منا في الإحالة على وضعية "الفاعل السياسي الحزبي" ودوره في صناعة القرار الحزبي ببلادنا، والتي هي وضعية متردية جدا، والمفارقة المؤسفة حقا هي أن تجد "فاعلين سياسيين" من هذا المستوى غير المشرف في الوقت الذي تتوفر فيه البلاد على خيرة الأطر والشباب من أكاديميين وباحثين ومتخصصين في علم السياسة، لكنها تبقى أطرا وكفاءات غير مرحب بها داخل أحزابنا السياسية، وحتى إن أمكنها الانخراط في تنظيماتنا السياسية فإن مساهمتها في تدوير عجلتنا الحزبية تظل محدودة جدا، هذا إن لم نقل منعدمة، والسبب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، هو سياسة التحكم التي لازالت تمارسها بعض الكائنات الحزبية، والتي تستقدم بين الفينة والأخرى أكواما من الأتباع المتشبعين بالتوجه الانتهازي الصرف، وتجندهم من أجل استهداف وتكميم كل الأصوات التي تنادي بضرورة إعمال قواعد التدبير الديمقراطي للحياة الحزبية وتنزيلها على أرض الواقع.. إنه بالفعل واقع مترد، لم ولن يمكننا من تجاوز عتبة التأطير الحزبي التي لازالت لم تتعد واحدٍ في المائة. إن استخدام الأطر والكفاءات الوطنية ك"كراطة" من أهم المعيقات التي لازالت تعترض تقدم مشهدنا الحزبي، "كراطة" ليست كتلك التي تم استعمالها في محاولة عبثية لتخليص الملعب الرياضي مولاي عبد الله بالرباط من المياه التي غمرته إثر التساقطات المطرية التي عرفتها العاصمة، إنها "كراطة" تجسدها جيوش من الأفواه المأجورة داخل أحزابنا السياسية، أناس شغلهم الشاغل هو اقتفاء أثر المعارضين لسياسة أسيادهم، والعمل على مدهم أولا بأول بالمعلومات الكفيلة بدحض أفكار وتوجهات من يؤمنون بالطرح الديمقراطي لتصريف الاختلاف الحزبي. لا تحامل في ما أوردناه أعلاه على وضعنا الحزبي، فتجربتنا الحزبية لازالت تصطلي، حقا، بنيران الجشع والطمع في بلوغ مناصب أو منافع شخصية صرفة، وبالتالي فاختيار هذا الموضوع مرماه استنهاض همم الشبان والشابات وبث الحماس في نفوسهم لاقتحام المشهد الحزبي، وذلك أن التغيير يتطلب منا العمل جنبا إلى جنب من أجل بناء مغرب الأوراش التنموية الكبرى، مغرب الاستثناء الديمقراطي الذي أصبح مثالا يحتذى به حتى من قبل البلدان المكناة بالمتقدمة. العباس الوردي