اليوم هو أول يوم في العام الجديد، والعام الجديد سيصبح قديما بعد 365 يوما؛ وكما كانت كل السنوات والقرون الماضية جديدة، فأكيد أن العام الجديد هو مجرد وهم.. عام جديد يمضي من أعمارنا كأشخاص ومن حياتنا كشعوب، لكننا نحتفل بذلك مثل أي كائنات بليدة. المغاربة الذين احتفلوا برأس السنة لا بد أنهم شربوا، ليس العصير، بل مختلف أنواع النبيذ التي تبدأ بالنبيذ المغشوش، المصنوع في «كاراجات» الأحياء الشعبية، وانتهاء بالنبيذ الذي يساوي كأس منه أجرة شهر كامل لموظف محترم. نحن شعب نشرب أكثر مما يشرب النصارى، ونملأ جوفنا بكميات قياسية من النبيذ جعلتنا نتفوق على «الفرنْسيس» و»الميريكان»؛ وعندما يأتي رأس السنة الميلادية يتحول الملايين من المغاربة إلى إسفنجات لامتصاص كل قطرة نبيذ، فليت أوزين تنبه إلى هذا الأمر واستخدمهم لتجفيف ملعب الرباط عوض استخدام الإسفنجات البدائية و«الكرّاطات» العقيمة. الإحصائيات تقول إن المغاربة تحولوا إلى شعب شرّاب بكل ما في الكلمة من معنى. والغريب، بل المثير أن هناك بلدانا تعتبر رائدة في صنع النبيذ، مثل ألمانيا وأمريكا، لا تشرب شعوبها من النبيذ مثلما يشرب المغاربة. أكيد أن عدد المغاربة المدمنين لا يتجاوزون، في أقصى الحالات، مليونين أو ما يزيد على ذلك قليلا، لكنهم يشربون من النبيذ ما يشربه الأمريكيون الذين يتجاوز عددهم ثلاثمائة مليون، ويتجاوزون الألمان الذين يصنعون أكثر أنواع الجعة شهرة، ويتجاوزون الفرنسيين الذين استعمرونا بدعوى أننا متخلفون، وعندما غادرونا تركونا نشرب أكثر منهم، يعني أننا أصبحنا أكثر منهم تحضرا. في بلدان الغرب، التي يعتبر فيها شرب النبيذ عاديا ولا يعاقب عليه القانون، يجلس أناس حول مائدة ويحتسون جعة أو جعتين ويغادرون وكأن شيئا لم يكن، وفي المغرب يجلس الشاربون حول مائدة نبيذ فلا يغادرون إلا بعد أن تغادرهم عقولهم وتتحول رؤوسهم إلى كرات بلورية يختلط فيها الواقع بالخيال العلمي، فينسون حتى عناوينهم، وكثيرا ما يسوقون سياراتهم فيصلون إلى القبر عوض غرفة النوم، وإحصائيات حوادث السير الناتجة عن الشرب المفرط تشير إلى أننا فعلا شعب يعاني.. يعاني في حياته كلها، في تدينه وتعليمه ولغته وشربه وأكله وسُكْره.. الدولة التي ترد على دعاة «ترشيد الشرب» بالقول إن أرباح النبيذ كبيرة، يبدو أنها «شافت الربيع ما شافت الحافة»، لأنها لا ترى أبدا كل هذه المآسي الاجتماعية التي يتسبب فيها الشرب المفرط، ولا ترى كل هذه الأرواح التي أُزهقت في الآلاف من حوادث السير القاتلة، ولا ترى كل هذا الجيش العرمرم من المدمنين، ولا ترى كل هذا التفكك الأسري، ولا ترى تلك الجرائم المشينة من زنا المحارم والاغتصاب والجرائم البشعة التي يتسبب فيها شرب بلا حدود. المغرب بلد فقير وبه أزيد من خمسة ملايين يعيشون تحت خط الفقر، والناس يشتكون كثيرا من ارتفاع الأسعار، وغالبا ما تخفق قلوبهم هلعا من إمكانية رفع الدعم عن المواد التي ظل يدعمها صندوق المقاصة، لكن لا أحد يأبه حين يتعلق الأمر بالنبيذ، فمهما ارتفع الثمن فلا أحد يشتكي. المغرب به، أيضا، نسبة قراءة متدنية جدا لأن الناس يقولون إن شراء الكتب والصحف ترف لا معنى له، بينما لا أحد يتردد في شراء زجاجة نبيذ بأضعاف أضعاف سعر كتاب أو جريدة، والسبب بسيط.. هو أن هناك تشجيعا على الشرب وتهوينا من فوائد القراءة. هنا في المغرب شخص يسمى «سلطان النبيذ»، ويدعى زنيبر. هذا الشخص يربح مئات الملايير كل عام، لكنه لا يؤدي ديّة القتلى بسبب حوادث السير، ولا يؤدي التعويضات عن كل هذه النكبات الاجتماعية، بل يفخر فقط بأنه يؤدي الضرائب لخزينة الدولة، ولا يرى أبدا الضرائب التي يدفعها المجتمع من حاضره ومستقبله وصحته الجسدية والعقلية. في المغرب، يعاقب القانون على شرب الخمر، لكن في الأسواق الممتازة التي يمتلكها أشخاص نافذون في الدولة يباع الخمر جنبا إلى جنب مع الحليب؛ وفي ليلة رأس السنة، تتحول هذه الأسواق إلى خليات نمل ويملأ الشاربون سياراتهم بكل أشكال النبيذ كأنهم يستعدون لسنوات الجفاف؛ وطبعا كلهم مسلمون، وهم لم يضطروا إلى اعتناق المسيحية من أجل الخروج سالمين من أبواب المتاجر الكبرى. هناك متاجر خمور كبرى ملاصقة ل«الكوميساريات» يدخلها المسلمون ويبتاعون منها ما شاؤوا أمام عيون الأمن، وبعد ذلك يتم ضبط أولئك السكارى يشربون في الشارع أو في مكان ما ويتم اقتيادهم إلى مراكز الأمن الملاصقة للمتاجر التي اشتروا منها الخمور.. إنها حالات سريالية لا يمكن أن توجد إلا في المغرب. عموما، سنة سعيدة لأباطرة النبيذ الذين كدّسوا بهذه المناسبة المزيد من الملايير، ونهنئهم مسبقا برأس العام المقبل لسنة 2016.