عبد الباري عطوان عملت السلطات السعودية جاهدة، طوال الأعوام الماضية، على تحصين جبهتها الداخلية من أعمال العنف الطائفي، متبعة أسلوبين أساسيين في هذا الخصوص: الأول، تصدير الأزمة الطائفية وذيولها إلى الخارج، وسورية والعراق بالذات، من خلال ضخ مليارات الدولارات في تمويل جماعات إسلامية متشددة وتسليحها تحت عنوان إسقاط النظام السوري «العلوي الكافر» ومحاربة الحكومة العراقية الطائفية؛ والثاني اتباع سياسة القبضة الحديدية ضد خلايا تنظيم «القاعدة» و»الدولة الإسلامية»، النائمة منها والنشطة، ومنع أي أعمال تمرد في المناطق الشيعية في منطقة الأحساء حيث تشكل الأغلبية في بعض مدنها وقراها، وخاصة مدينة القطيف. هذا التوجه بدأ يعطي ثمارا عكسية، فقد نجحت «الدولة الإسلامية» في اختراق العمق السعودي وإقامة «إمارة» لها هياكل تنظيمية داخل المملكة تضم أكثر من 75 شخصا، وكانت تخطط لحملة اغتيالات لكبار المسؤولين في الدولة، الأمر الذي كان بمثابة جرس إنذار للقيادة السعودية التي أدركت أن كل إجراءاتها الوقائية تقريبا، وعلى رأسها سياسة القبضة الحديدية، ذات أثر محدود لأن الخطر أكبر بكثير مما كانت تعتقد. حالة «الفزع»، التي رأينا إرهاصاتها في اليومين الماضيين كرد فعل على الهجوم المسلح الذي شنه ثلاثة ملثمين على حسينية شيعية في منطقة الإحساء كان روادها يحيون ذكرى «عاشوراء» وأسفر عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة عشرة آخرين، انعكست في «مسارعة» العلماء الرسميين (هيئة كبار العلماء) وغير الرسميين (سلمان العودة، عائض القرني، وعادل الكلباني) على إدانة هذا الهجوم، والتحذير من أخطاره، والفتنة الطائفية التي بدأت تطل برأسها بقوة في البلاد، والتأكيد على حتمية الوحدة الوطنية. العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز أدرك حجم المخاطر التي تواجهها البلاد من قبل الجماعات الجهادية الإسلامية، وتنبه إلى الأضرار التي يمكن أن تنجم عنها على استقرار بلاده وأمنها إذا نجحت في نقل فكرها إلى المملكة، وأصدر قوانين تجرم «الجهاد» خارج المملكة وتعاقب كل سعودي يقاتل في سورية أو العراق أو غيرها بعقوبة سجن تصل إلى عشرين عاما، وفرض قيودا شديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعقوبات أشد على من يستخدمها للمطالبة بالإصلاحات السياسية أو يحرض ضد الحكم. هذه «الصحوة»، على أهميتها، جاءت متأخرة بعض الشيء، لأن الآلة الإعلامية السعودية الجبارة، والمتمثلة في قنوات فضائية «إسلامية» غذت الفتنة الطائفية والتشدد الديني في أقوى صوره عندما ركزت الهجوم الشرس على الشيعة وتكفيرهم، أو معظم فرقهم، وتحريض الشباب العربي، والسعودي بالذات، على الجهاد في سورية والعراق لإسقاط الأنظمة «الكافرة» فيهما، ووفرت هذه القنوات، التي تناسلت بسرعة غير عادية، المنابر لدعاة متشددين وطائفيين ليصولوا ويجولوا دون حسيب، ويتهجموا بالسباب والشتائم، البذيئة في بعض الأحيان، ضد كل من لا يسلم بوجهة نظرهم وليس مخالفتهم الرأي فقط. بعد ثلاث سنوات، أدركت السلطات السعودية خطورة هذه القنوات على أمنها واستقرارها، وبثها للفتنة الطائفية، وأصدر وزير الإعلام السعودي عبد العزيز خوجة قرارا بإغلاق مكتب قناة «وصال» الإسلامية في المملكة لأنها تهاجم الشيعة، وقال، في بيان أصدره، إن وزارته «لن تسكت على أي وسيلة إعلامية مقروءة أو مسموعة أو مرئية أو رقيمة تحاول النيل من وحدة الوطن وأمنه واستقراره». اللافت أن الخطوة جاءت بعد يوم واحد على الهجوم على حسينية الأحساء. ويظل السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن أسباب صمت وزارة الإعلام، والدولة السعودية، وسكوتها على هذه المحطة طوال السنوات الثلاث الماضية مادامت «تحاول النيل من وحدة الوطن وأمنه واستقراره». الدكتور خوجة قال إن هذه المحطة ليست سعودية، وهذه مغالطة كبيرة وغير مقنعة، لأن جميع برامجها تبث من مكتبها في المملكة وتمول من خزينة الدولة، و»نجومها» يقيمون في المملكة وأصبحوا مصدر تأثير كبير في الشباب السعودي، ويتابعهم وصفحاتهم وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي الملايين. وزير الإعلام السعودي ليس صانع قرار، وإنما أداة تنفيذية، يتم إملاء القرارات عليه «من فوق»، ولذلك استغربنا إعفاءه من منصبه «بناء على طلبه» لأن الرجل لم يرتكب أي خطإ، ووجود هذه القناة أو تلك أمر يتعلق بالسياسة السعودية وتوجهاتها، ونعتقد أنه كان «كبش فداء» يدفع ثمن «أخطاء غيره» وسياسات لا نعتقد أنه كان مقتنعا بها. السلطات السعودية قالت، في بيان، على لسان اللواء منصور التركي المتحدث الأمني باسم وزارة الداخلية، إن «الخلية» التي هاجمت الحسينية الشيعية تنتمي إلى تنظيم «القاعدة» بعد أقل من يوم واحد على الهجوم، ولا نعرف كيف توصلت إلى هذه النتيجة بهذه السرعة؛ ولكن حتى لو كان هؤلاء المهاجمون من تنظيم «القاعدة»، فإن هذا أمر يدعو إلى القلق، خاصة أن الانطباع السائد لدى المواطن السعودي، وبسبب البيانات الرسمية، أنه تم القضاء على هذا التنظيم وأنصاره قضاء مبرما من خلال الحملات الأمنية المكثفة وسياسة القبضة الحديدية. ما يميز هذا الهجوم عن غيره من هجمات تنظيم «القاعدة» السابقة أنه استهدف أبناء الطائفة الشيعية هذه المرة، وليس قوات الأمن أو المقيمين الغربيين مثلما كان عليه الحال في مرات سابقة، وآخرها الهجوم على موظفين أمريكيين في شركة أمنية تدرب عناصر من الحرس الوطني السعودي؛ وإذا تبين أن المنفذين يمثلون خلايا داخلية، أي لم يأتوا من الخارج، فإن خطورتهم ستكون أكبر، لأن هذا يعني أن تنظيم «القاعدة»، أو ربما «الدولة الإسلامية»، قد وصلوا باختراقهم الأمني إلى العمق السعودي، ويريدون إشعال فتيل «فتنة طائفية» لا تتحملها الممكلة المحاطة حاليا بأخطار الوضع اليمني المتفجر، حيث الحوثيون و»القاعدة» في الجنوب (اليمن) و»الدولة الإسلامية» في الشمال (العراق وسورية). حذرنا مرارا من أن النيران الملتهبة في سورية والعراق ستصل حتما إلى طرف الثوب السعودي، ويبدو أن هذا التحذير كان في محله، والسؤال الأهم هو عما إذا كانت السلطات السعودية تملك أجهزة إطفاء الحرائق القادرة على إطفاء هذا الحريق قبل أن يلتهم الثوب، كليا أو جزئيا.