ما يستوقف زائر مدينة "لوند" السويدية، أو الجزيرة الخضراء كما درج على تلقيبها، وفرة الساحات. هذه تبدو كما لو أنها أيد مفتوحة ترى إلى الامتداد الأزرق، وكأني به ينثر للعراء ما يجلل الفضاء. كانت ساحة "اسطورطوريات" ترى إلى"السمكة الذهبية"، الشارع الذي يحج إليه مشيا على الأقدام فقط. وفي الزاوية، يمين من يغادر"السمكة الذهبية"، مكتبة "ببليوتكهندل" الخاصة التي يفيض قراؤها، وتعرض جديد الإصدارات ساخنا كما قذفته المطابع. أما بعيدا، فيطالعك امتداد الكنيسة "دوم شيركن" في جلال هيبتها وقداسة صمت من ذهب. بيد أن ما أثارني، وأنا أتشرب الخطو موليا ظهري للمكتبة العامة "ستاديس ببيلوتك" التي ناهزت المائة والخمسين سنة، قاصدا محطة الحافلات "بوتولوف بلاستن" التي لم ولن تخالف دقة مواعيدها، ما كنت أراه من تظاهرات تشهدها الساحة منتصف النهار، حيث لا ذروة حقيقية للزمن. هنا بالذات رأيت فلسطين من خلال ثلاثة مشاهد. فأما الأول ففي أواخر شهر فبراير من سنة 2013. وكان يوم الأحد باردا. إذ تجمع وسط الساحة لفيف الشقر الحامل بعضهم لأعلام فلسطينية صغيرة، والآخر لافتات دون عليها اسم فلسطين، ومطالب بضرورة مساعدة الشعب الفلسطيني. يقف اللفيف في الوسط، ويتكلم صمتا كعادة السويديين. وكان المشهد الثاني يوم فاتح ماي 2014، حيث نصبت خيام كبيرة في الساحة، إلى مكبرات الصوت. وفي واحدة من تلك، وأظنها الوسطى، انتصبت فرقة موسيقية تعزف موسيقى غربية هادئة دون غناء. بيد أني رأيت من الساهرين على تنظيم التظاهرة، من كان يحمل شارات فلسطينية علامة الحضور. وأذكر في هذا اليوم بالضبط، أني رأيت رجال الشرطة لأول مرة، حيث قيل لي إنهم وجريا على العادة يتقدمون التظاهرات العمالية. وأما المشهد الأخير، فكان في أبريل 2014، وكانت الشمس هبة الله النادرة في ذلك اليوم، إذ كان حشد المناصرين للقضية كبيرا ضم فعاليات المجتمع المدني، إلى الحقوقيين والسياسيين الذين يحاورون الجميع برغم الاستفزازات التي يقابلون بها، بالبسمة والضحك العاشق للحياة، طالما أن الاختلاف لن يمحو مبدأ التسامح كأساس للوجود. من هنا وكما أرى انبثقت فكرة الحضور الفلسطيني في المجتمع السويدي. إنه الحضور الإنساني في أسمى تجلياته، وبالتالي هو الحضور الذي أثمر الاعتراف بدولة فلسطين مستقلة. إنه الدرس البليغ للعرب أولا، ولأمريكا ثانيا، وللغرب الذي ليس عليه سوى أن يطأطئ الرأس ناحتا الطريق نفسه.