مهمة ميتشيل الحقيقية كانت بحث النوايا الإسرائيلية تجاه إيران تتعامل الحكومة الإسرائيلية الجديدة بازدراء شديد مع الإدارة الأمريكية والسلطة الفلسطينية في رام الله، وظهر ذلك واضحاً من خلال الاستقبال المهين للسيناتور جورج ميتشيل المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط من قبل بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته افيغدور ليبرمان. فبينما كان السيناتور ميتشيل يتحدث عن دعم إدارته لحل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة جنباً إلى جنب مع الدولة العبرية، كان ليبرمان يتحدث عن «جهازين» اقتصاديين، أحدهما فلسطيني والآخر إسرائيلي، ويرى أن «التنازلات» التي قدمتها الحكومات السابقة للفلسطينيين تحت عنوان السلام قادت إلى حربي لبنان وقطاع غزة. نتنياهو ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما اشترط على الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، قبل أي حديث عن السلام معهم، ودون أن يتلفظ بحل الدولتين، سلباً أو إيجابا، وكأنه يقول إن هذه الأرض كلها لنا، ولا مكان لأي شخص غير يهودي فيها، ومن لا يعجبه ذلك فليشرب من المحيط. العقل الإسرائيلي مشهود له بالإبداع في ميادين «الابتزاز»، ولذلك لم يكن مفاجئاً بالنسبة إلينا على الأقل، أن يخرج علينا نتنياهو بهذا الشرط الجديد، فقد تعود الإسرائيليون على إملاء شروطهم واستسلام العرب لها، والسلطة الفلسطينية خاصة، سواء دفعة واحدة، أو بالتقسيط المريح. أليس السيد محمود عباس رئيس السلطة في رام الله هو الذي بادر بالاتصال بنتنياهو مهنئاً بعيد الفصح اليهودي، ومتمنياً له وللإسرائيليين عيداً سعيداً هنيئاً على أرض الأجداد (أي أجدادنا) في فلسطين، من باب الحفاظ على اللياقات والأعراف والأصول المتبعة بين الأصدقاء؟. الحكومة الإسرائيلية وصلت إلى السلطة عبر برنامج انتخابي يميني متطرف، تعمل حالياً على تنفيذه حرفياً، وأبرز معالمه طرد عرب الجليل والمثلث تحت ذريعة عدم الولاء للدولة، ولأنه لا مكان لغير اليهود فيها. أما الفلسطينيون في الضفة الغربية فليس لهم غير البقاء كعمالة رخيصة، يمكن تحسين ظروفها المعيشية. السيناتور ميتشيل أثلج صدر أهل السلطة في المقاطعة برام الله عندما أكد التزام حكومته بحل الدولتين، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وكأننا نسمع بهذا الكلام للمرة الأولى، وكأن جورج بوش الابن، أكثر أصدقاء إسرائيل حميمية، لم يعد بالشيء نفسه مرتين، دون أن يفكك حاجزاً أمنياً واحداً في الضفة، ناهيك عن تفكيك مستوطنات، أو منع بناء أو توسيع أخرى جديدة أو قديمة. في الماضي كنا نسمع تهديدات خجولة على لسان بعض مسؤولي السلطة، وخاصة السيد احمد قريع رئيس فريق المفاوضات (سابقاً) كرد على التلكؤ الإسرائيلي في الالتزام بالحد الأدنى من شروط عملية السلام، خاصة تلك المتعلقة بالاستيطان، مثل التلويح بالتخلي عن حل الدولتين، والعودة إلى الدولة الواحدة ثنائية القومية، ولكن حتى هذه التلميحات الخجولة الهامسة تبخرت، ولم نعد نسمع بها، وتبخر معها أو كاد، دور السيد قريع في السلطة، ولم يعد يشارك في أي من اجتماعاتها. برنامج حكومة نتنياهو العنصري الرافض لحل الدولتين، وعملية أنابوليس للسلام، يمكن أن يكونا ذريعة قوية لتحلل السلطة من كل التزاماتها وسياساتها السابقة، والعودة إلى البدائل المنطقية المتاحة لشعب تحت الاحتلال، ولكن يبدو أن السيد عباس غير معني بهذا الخيار على الإطلاق، وبات يضع كل بيضه في سلة دول محور الاعتدال، نكاية بحماس ربما، وخروجاً على نهج الرئيس الراحل ياسر عرفات، بحجة عدم الوقوع في خطئه المتمثل في الوقوف في المعسكر الآخر المواجه للمشاريع الأمريكية في المنطقة. نتنياهو غير مهتم بالعملية السلمية لأنه يضع البرنامج النووي الإيراني على قمة أولوياته الراهنة، فهو يعتبره الخطر الأكبر الذي يهدد وجود الدولة العبرية، ويريد أن يدمره قبل أن ينجح في تطوير رؤوس نووية، وتوريط الولاياتالمتحدة في حرب قد تؤدي إلى تدمير مصالحها وتعريض أمنها لخطر «إرهابي» غير مسبوق. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يصدر روبرت غيتس وزير الدفاع الأمريكي تحذيرات واضحة إلى إسرائيل بعدم الإقدام على مثل هذه المغامرة، لأن نتائجها ستكون وخيمة، عليها وعلى أمريكا، علاوة على فشلها المحتوم في تحقيق أهدافها. فأي ضربة إسرائيلية لإيران ستؤدي إلى توحيد الشعب الإيراني خلف قيادته، والبدء في تنفيذ مخططات انتقامية ضد إسرائيل والغرب معاً. القيادة الإسرائيلية تعلم جيداً أن إيران باتت تملك من اليورانيوم المخصب ما يكفي لبناء قنبلة نووية واحدة على الأقل، وتعلم أيضا أن أحمدي نجاد الذي وصف إسرائيل بأنها دولة «القنبلة الواحدة»، أي أن قنبلة واحدة تكفي لإنهاء وجودها، سيفوز حتماً في الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران (يونيو) المقبل، حتى أن صحيفة «التايمز» البريطانية نقلت عن دبلوماسي غربي قوله إنه لم يقابل أحدا في طهران يعارض انتخاب نجاد حتى الآن. وهذان التطوران هما مصدر تهديد وجودي لها، وقد لا يطول صبرها تجاههما. فوجود إيهود باراك وزيراً للدفاع في حكومة نتنياهو يعزز النظرية التي تقول بقرب الهجوم الإسرائيلي على إيران، حتى أن بعض المحللين العسكريين في الغرب يؤكدون أن العملية العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت ما يسمى بقافلة تهريب أسلحة إيرانية في الأراضي السودانية قبل شهرين كانت بمثابة «بروفة» للخطة الإسرائيلية في هذا الإطار. فالطائرات الإسرائيلية القاذفة من طراز «اف 16» والمحمية بطائرات «اف» 15 طارت مسافة 1750 ميلاً ذهاباً وإيابا فوق البحر الأحمر، وتزودت بالوقود في الجو، وهي المسافة نفسها بين إسرائيل ومنطقة نطنز الإيرانية حيث توجد معدات تخصيب اليورانيوم (نطنز تبعد 900 ميل عن فلسطينالمحتلة). وهكذا فإن مهمة ميتشيل الحقيقية لم تكن حل الدولتين، بقدر ما كانت بحث النوايا الإسرائيلية تجاه إيران، بدليل أن الرئيس شمعون بيريس حرص على التأكيد بأن بلاده تؤمن بأن الدبلوماسية هي الحل الوحيد للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني، في أعقاب لقائه مع المبعوث الأمريكي يوم وصوله إلى القدسالمحتلة. زيارة نتنياهو المقبلة لواشنطن، إذا ما تمت، لن تضع مسيرة السلام على قمة أولوياتها، وإنما الموضوع الإيراني، ولذلك لا نشاطر الرئيس عباس والمتحدث باسمه الدكتور صائب عريقات تفاؤلهما بالإدارة الأمريكيةالجديدة وأجندتها السلمية في المنطقة. قد يجادل البعض بأن الخلاف الفلسطيني الراهن ربما يكون مفيداً على عكس ما يعتقده الكثيرون، فوجود معسكرين فلسطينيين أحدهما مع المقاومة والدول الداعمة لها مثل إيران، وآخر مع الولاياتالمتحدة والدول العربية الحليفة لها، ربما يعطي ثماراً أفضل، فعلى الأقل سيكون هناك فلسطينيون في المعسكر الرابح، سواء جرى التعامل مع البرنامج النووي الإيراني سلماً أو حرباً. خيارنا أن يقاطع الرئيس عباس حكومة نتنياهو وأن يحث العالم كله على أن يفعل الشيء نفسه، لأنها حكومة عنصرية تماماً مثل حكومة هايدر النمساوي، وجنوب إفريقيا العنصرية، ولكنه لن يفعل، ولن نفاجأ إذا ما عانق نتنياهو قريباً جداً في واشنطن أو شرم الشيخ تحت مظلة أمريكية أو مصرية. الفلسطينيون يجب أن يقفوا في الخندق الآخر المواجه لإسرائيل، ومعهم العرب جميعاً، أو من امتلك الرؤية الحقة والكرامة الأصيلة من بينهم، ولكن المؤسف أن بعضهم في مقر المقاطعة في رام الله يرى عكس ذلك.