هل كان عبد الإله بنكيران، قبل أن يصبح رئيسا للحكومة، يعرف بنية المخزن ويعرف كيف تشتغل، وكيف تجد، دائما، الشروط المناسبة ليستأنف دورته ليضمن انتقاله السلس نحو جميع الوضعيات، لنطرح السؤال بصيغة أخرى: هل كان بنكيران، الذي فتح جبهات شاسعة لمحاربة الفساد في برنامجه الانتخابي وفي كل خطاباته، يدرك مغزى المقولة الشهيرة للكاتب الأمريكي جون واتربوري صاحب «إمارة المؤمنين»: «إن المخزن يتجدد ولا يتغير»؟. في حمأة الحراك الشبابي والأخبار المتواترة من بلدان ما سمي بالربيع العربي، فتح رئيس الحكومة الحالي النار في كل اتجاه: هاجم من وصفهم بالمحيطين بالملك، المتنفذين، وهاجم رجال الأعمال، وهاجم الطبقة السياسية ووصفها بالفاسدة والمستفيدة من الريع. بالنسبة للمتتبعين والناخبين على حد سواء، كان واضحا جدا أن الخطاب السياسي الذي هيمن على تصريحات بنكيران كان مختلفا جدا، فمنذ السبعينيات والثمانينيات، أيام كان اليسار يزعج النظام ويهاجم بحدة انتشار الفساد، لم يأنس الفاعل السياسي المغربي بمثل هذا الخطاب الذي كان يمنح الانطباع أن حزب العدالة والتنمية سيكون خصما عنيدا لبؤر الفساد ولن يرفع الراية البيضاء مهما كانت الظروف. مبعث هذا التفاؤل، الخطابات القوية التي صدرت عن قيادات بارزة في الحزب أمثال مصطفى الرميد وعزيز الرباح وعبد العالي حامي الدين. لم يفكر أحد يومها، غير قليل من العقلاء الذين درجوا في مسالك المخزن، أن قيادة البيجيدي كانت مأخوذة بالموجة «الرومانسية» التي كانت سائدة آنذاك. مضت شهور قليلة فقط، ليخرج بنكيران في حوار تلفزيوني مباشر قائلا للمغاربة بما يفهم منه إنه فشل في محاربة الفساد، وإنه استسلم للوبيات قوية لها تشعبات في كل مكان، قبل أن يصدم المغاربة بقولته الشهيرة: عفا الله عما سلف. أثارت جملته، وقتئذ، الكثير من ردود الفعل، ووجه الجميع مدفعيته الثقيلة تجاه بنكيران، بل إن قاعدته داخل المجلس الوطني خصصت حصة كاملة للتساؤل عن جدوى هذا التصريح في ذلك التوقيت بالتحديد. ولأن بنكيران خبر المخزن، واحتك به، ودخل إلى خطوط التماس معه، وقدم تنازلات كثيرة وفق قاعدة شهيرة كان قد نظر لها توماس هوبز في»اللوفياتان»، «كثير من التنازلات مقابل جزء من الحكم»، فقد قال لأعضاء حزبه إنه من أراد أن يبقى معه فمرحبا به ومن أراد أن يتنصل منه فليبحث عن مكان آخر. جملة بنكيران لا تحتاج للكثير من التأويل، فالرجل عجز كليا عن التدافع مع لوبيات الفساد، وعجز أيضا عن فتح ملفات، أثارتها الصحافة وكانت موضع تقارير رسمية وغير رسمية، وحتى تقارير المجلس الأعلى للحسابات التي تصرف عليها الملايير، بقيت حبيسة الرفوف، وعدا بعض اللغط الذي تثيره في وسائل الإعلام وداخل قبة البرلمان، ظل المجلس شرطيا بدون أصفاد. في بداية العمر الحكومي، وقع ما أسماه بنكيران نفسه بنوع من الارتباك، فلا هو مضى في محاربة الفساد الحقيقي، ولا تراجع إلى الوراء، وبيان ذلك أنه مباشرة بعد عبارة «عفا الله عما سلف» عاد ليهاجم الاستقلاليين بطريقة غير مسبوقة، وتحدث بنرفزة عن تهريب الأموال إلى الخارج. يمكن أن نفهم هذا الانفصام بالنظر إلى قرب بنكيران من دائرة المخزن الضيقة، لكن ما الذي لا يمكن لأي كان أن يفهمه: كيف انخرطت الحكومة في «موضة» نشر اللوائح، دون أن يستتبع ذلك بإجراءات ملموسة بمقدورها أن تضع حدا لاقتصاد الريع الذي ينخر اقتصاد البلاد. لذلك، كان من المفهوم جدا، أن يهدد نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية والحليف رقم واحد بالانسحاب من الحكومة في حال استمرت في نشر لوائح لا طائل من ورائها. بعدها انتظر الجميع أن تمضي الحكومة في خطوات اعتبرت محمودة رغم كل الانتقادات التي وجهت لها، لكنها توقفت بشكل مفاجئ. كل شيء أصبح طي الكتمان: رخص الصيد في أعالي البحار، ورخص الاستفادة من المقالع، والمتهربون من الضرائب، ومهربو الأموال إلى الخارج وأصحاب «الجنات الضريبية»، والمستفيدون الحقيقيون من اقتصاد الريع. حالة الانتظارية التي عاشها الجميع، طوال شهور، تلتها مجموعة من المؤشرات الموحية والتي تؤكد أن الحكومة لم تضع نصب عينيها مواجهة لوبيات الفساد، التي أصبحت تشتغل في إطار «المشروعية»، كما سخر أحد المحللين السياسيين من سياسة الحكومة يوما. أول هذه المؤشرات أن مقترح القانون الذي وضعته الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، لم يشرع البرلمان في مناقشته إلا خلال الأيام الأخيرة، ناهيك عن أن تصريحات وزراء في الحكومة كانت تصب جميعها في مسار واحد وهو أن الفساد سيبقى معششا بالمغرب شاء من شاء وكره من كره. الآن، أصبح الجميع يعرف أن الحكومة لا تتوفر على استراتيجية لمحاربة لوبيات الفساد القوية بالمملكة، وأصبحنا نعرف فوق ذلك أن بنكيران لا يستطيع أن يعلن أنه سيكشف للجميع من يستنزف خيرات الشعب المغربي، وأصبحنا نعرف أيضا، وهو الأخطر، أن المغاربة سيبقون في حالة انتظارية طويلة، لأن مواضعات البقاء في الكراسي الحكومية أهم بكثير من محاربة الفساد ولوبياته. الريع يكلف المغرب أكثر من 20 مليار درهم سنويا المهدي السجاري 20 مليار درهم هي كلفة الخسائر السنوية للاقتصاد الوطني من ظاهرة الريع. رقم ضخم يكشف حقيقة هذا الأخطبوط الذي ينخر الاقتصاد المغربي، ويسيء إلى تنافسية شريحة مهمة من المقاولات. وإذا كانت الإجراءات المتخذة خلال السنوات الأخيرة تستهدف محاصرة الفساد ووضع مقتضيات قانونية توضح شروط منح الدولة للرخص في عدد من المجالات، وضبط الإيقاع في تنافسية المقاولات، إلا أن إشكالية اقتصاد الريع «الخفي» تبقى إحدى المعضلات التي لازال يواجهها الاقتصاد المغربي. رخص الصيد البحري، والمقالع والمأذونيات ليست إلا جزءا من منظومة معقدة، استفادت منها فئة صغيرة داخل المجتمع، وجعلتها تراكم أرباحا طائلة على حساب الاقتصاد الوطني، مخلفة خسائر سنوية تعد بملايير الدراهم. حالة الريع التي عانى منها المغرب منذ سنوات برزت أيضا على مستوى الصفقات العمومية، والشروط التي يتم وضعها على مقاس مقاولات دون أخرى، فكانت الحصيلة المالية لهذه السلوكات المخالفة لقوانين المنافسة الشريفة، ثقيلة. فمنظمة الشفافية العالمية كشفت في تقرير سابق لها حول الفساد في الصفقات العمومية بالمغرب، أن كلفته تتجاوز 27 مليار درهم. إشكالية اقتصاد الريع تأخذ أيضا طابعا خاصا في الأقاليم الجنوبية، خاصة على مستوى الإعفاءات الضريبية، وهو الملف الذي توقف عنده المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في نموذجه التنموي لهذه الأقاليم، حتى إن عددا من الأطراف خرجت لتضغط من أجل تمديد الإعفاء الضريبي للمقاولات. المجلس أكد على ضرورة العمل على الانتقال من اقتصاد الريع الذي يعتمد على الأنشطة الأولية والامتيازات، إلى إطار يشجع الاستثمار الخاص المنتج للثروة وفرص الشغل، ويضمن الشفافية واحترام قواعد المنافسة الشريفة. المؤسسة قالت بصريح العبارة إن عقلية الريع تتحكم في اقتصاد الأقاليم، مع نشاط تجاري ضعيف. هذا المنطق يشمل أيضا المجال الاجتماعي، الذي يعرف عددا من الإجراءات لفائدة السكان بدون أي منظور واضح. فتقرير المجلس الاقتصادي سجل أن برامج الإنعاش الوطني، وآليات توزيع المساعدات والدعم والمواد الغذائية والمحروقات، ومنح قطع أرضية ومساكن، وأنظمة المنح للطلبة، وعمليات التشغيل في القطاع العام، تجري في الآن نفسه، دون أي منظورية ولا تنسيق ولا محاسبة على مستوى تقييمها، أو تقييم آثارها في مجال تراجع الفقر، أو تراجع حالات الميز المرتبطة بالنوع، أو تحسين وضعية الأشخاص والجماعات في وضعية هشاشة، وبشكل عام في مجال تحسين الرفاه الاجتماعي. وتشير المعطيات الرقمية الخاصة بحجم المساعدات، إلى أن الأقاليم الجنوبية تستفيد من جهاز مهم من المساعدات بميزانية سنوية تقارب مليار درهم ويقوم هذا الجهاز على آليتين اثنتين للمساعدات، تمثلان مليار درهم سنويا (أي في المائة من مجمل الغلاف المالي، هما الإنعاش الوطني والقفة الأسبوعية). فبالنسبة لآلية الإنعاش الوطني، فميزانيتها تصل إلى 600 مليون درهم، بما يشكل 50 في المائة من ميزانيته الوطنية، وتغطي مجموع الحاجيات المتعلقة بالمساعدات الاجتماعية في المجال الترابي. كما تشهد ميزانية الإنعاش الوطني ارتفاعا سنويا، مما أدى إلى ارتفاع كبير في النفقات خلال العقد المنصرم. أما ميزانية القفة الأسبوعية فتصل إلى 580 مليون درهم سنويا، وتمثل مساعدة عينية توزع على ساكنة مخيمات الوحدة. لكن ما رصده المجلس الاقتصادي يوضح أن عددا كبيرا من الأسر والأشخاص المعوزين لا يتلقون المساعدات الاجتماعية المقدمة، فيما يصل عدد المستفيدين إلى 118 ألف شخص، يتوزعون بين فئتي المعطلين وساكنة مخيمات الوحدة. صدوق :ليس للدولة الجرأة في محاربة المستفيدين من اقتصاد الريع قال إن اقتصاد الريع من بين مآسي الإقتصاد المغربي أكد عبد الصمد صدوق، الكاتب العام للجمعية المغربية للرشوة «ترانسبرانسي»، أن الحكومة تفتقد الجرأة السياسية من أجل محاربة المستفيدين من اقتصاد الريع، الذي أضحى قطاعا مهيكلا وليس هامشيا. ودعا صدوق الحكومة إلى العمل على إنجاز دراسات قطاعية تقوم بها كل وزارة معنية باقتصاد الريع، من أجل وضع استراتيجية متكاملة للقضاء على هذه السلوكات. [[{"type":"media","view_mode":"media_large","fid":"13388","attributes":{"alt":"","class":"media-image","height":"215","typeof":"foaf:Image","width":"480"}}]] خديجة عليموسى - كيف تقيم وضعية اقتصاد الريع بالمغرب؟ أعتقد أن اقتصاد الريع من بين مآسي الاقتصاد المغربي إلى جانب الرشوة والاقتصاد غير المهيكل، والريع هو نوع من أنواع الفساد، بحيث إن المستفيد يضمن مدخولا مهما دون استثمار ولا جهد، ويستفيد من هذا إما لعلاقة زبونية أو في إطار إكراميات أصحاب السلطة، وهذا مما لا شك فيه يكون على حساب قوة ومناعة الاقتصاد الوطني. - ما هي الكلفة الاقتصادية لاقتصاد الريع؟ أكيد أن للريع كلفة ليست لدي أرقام حتى يمكن بسطها في هذا السياق، لكن يمكن الحديث عن أمثلة، و لنأخذ على سبيل المثال الريع في ميدان النقل الطرقي، فإن التذكرة التي يستخلصها صاحب الحافلة من الزبون يجب أن تغطي تكاليف المحروقات والمصاريف المرتبطة بالعمال وتكلفة الاستثمار ثم تكلفة المأذونية، وغالبا ما تتم تأدية هذه المصاريف وبالأخص تكلفة المأذونية على حساب الصيانة، وكل ذلك يؤدي إلى حوادث السير التي تعرفها بلادنا. ومن الأمثلة التي يمكن أيضا الحديث عنها في هذا السياق، اقتصاد الريع في مجال الصيد في أعالي البحار، إذ أن المستفيدين من هذه الثروة يحرمون الدولة من أموال الضرائب، التي يمكن أن تضخ في خزينة الدولة مبالغ مالية هامة، زد على ذلك اقتصاد الريع في مجال المقالع على اختلاف أنواعها والتي بدورها تدر أرباحا على مستغليها دون وجه حق، وكمثال على ذلك مقالع الرمال بالوليدية. وعموما، فإن لاقتصاد الريع كلفته الاقتصادية المباشرة وهو ما يتطلب محاربته وفق استراتيجية تعتمد على دراسات قطاعية لوضع حد لهذه الممارسات التي أصبحت مهيكلة، إذ أنه لا يمكن القول إن اقتصاد الريع هامشي، بل إنه تحول إلى قطاع مهيكل بمنظوره السلبي، وهو ما أثر على القطاع المنظم ككل. - الحكومة الحالية نشرت عددا من لوائح المستفيدين في عدد من المجالات، ولطالما رددت أنها ستحارب الفساد واقتصاد الريع، إلى أي حد استطاعت تحقيق ذلك؟ كنا قد رحبنا في الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة «ترانسبرانسي « في فبراير 2012 بالخطوة التي اتخذتها الحكومة، بشأن نشر لوائح المستفيدين في مجال النقل الطرقي، وطالبنا بأن تكون خطوة أولى في طريق إرساء حكامة اقتصادية متقدمة، لكن مع الأسف لم نر أي تقدم منذ تلك الخطوة، كما أننا نلاحظ أن خطاب مكافحة الريع بدأ يضمحل. فالأجدر هو أن يقوم كل قطاع على حدة بدراسة كافة المشاكل المرتبطة باقتصاد الريع، بأن تدرس كل وزارة على حدة ملفاتها المرتبطة بهذا النوع من الممارسات، وأكيد أن لكل منها دراسات في هذا السياق، وأن تكون لها الإرادة السياسية والجرأة من أجل حل هذا الملف، وذلك عبر الانتقال من الشعارات إلى وضع استراتيجية مهمة من أجل محاربة اقتصاد الريع. - هل يمكن الحديث عن وجود لوبيات تقاوم القضاء على اقتصاد الريع؟ أكيد أن هناك لوبيات مقاومة لأي إصلاح، هذا بديهي فأصحاب المصالح لن يتخلوا بمحض إرادتهم وبرحابة صدر عن مصالحهم، غير أنه يمكن القول إن المشكل في الدولة التي ليست لها الإرادة ولا الجرأة لتعبئة وسائلها ومحاربتهم، فأصحاب المصالح والنفوذ وجيوب المقاومة لن يتوقفوا عن استغلالهم واستفادتهم من اقتصاد الريع، لكن عندما تتوفر الجرأة لمواجهتهم فإنه يمكن وضع حد لهم آنذاك. - ما هي العوائق التي تقف دون محاربة اقتصاد الريع في رأيك؟ لا أعتقد أن هناك عوائق لا يمكن تجاوزها إذا توفرت الإرادة القوية، أكيد أن ذلك يتم على حساب فئات ومصالح من استفادوا بدون وجه حق، وكما قلنا سابقا هذه الفئات ستواجه وستستنكر وتشتكي، كما يمكن أن نتطرق في هذا السياق إلى حالات اجتماعية معينة استفادت من هذه الرخص، فيمكن البحث فيها وإيجاد حلول منصفة لها. - ما هي الوسائل التي يمكن عبرها القضاء على اقتصاد الريع؟ لست في موقع يؤهلني للإجابة على هذا السؤال، باختصار فإن أصحاب القرار لاشك أنهم يتوفرون على المعطيات الدقيقة في كل قطاع ولديهم دراسات ميدانية ودراسات مقارنة، وهم المؤهلون لإعطاء تصور لإخراج الاقتصاد الوطني من مستنقع الريع. فإلى جانب الإرادة والجرأة السياسية يجب التوفر على رؤية ومنهجية كفيلة بإرساء حكامة متقدمة للاقتصاد، وإذا قدمنا مثالا حول الريع في المقالع، فمثلا ينبغي أن تركز الدراسات في هذا السياق على كيفية ممارسة اقتصاد الريع وكيف تمنح التراخيص، وعندما تتضح الرؤية فإن الأمر يمهد من أجل وضع إستراتيجية لمواجهة هذه السلوكات، التي تؤثر على الاقتصاد المغربي. مأذونيات النقل وفقاعة الكشف عن اللوائح مصطفى الحجري و«ماذا بعد».. سؤال ظلت عدة فعاليات سياسية ونقابية وجمعوية تطرحه على الحكومة، بعد أن سوقت للكشف عن لائحة المستفيدين من مأذونيات النقل كإنجاز غير مسبوق قبل أن تتراجع للخلف، وتعتبر أن المهمة انتهت بنشر اللائحة دون إصلاح جذري يقطع مع أهم عناوين الريع بالمغرب. رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران وفي سياق محاولة صده للانتقادات الشديدة، التي واجهت فقاعة الصابون المتمثلة في نشر اللوائح، لم يجد حرجا في إعادة الحديث عن وجود جيوب لمقاومة محاربة الريع، دون أن يقدم أي خطة حكومية تمكن هذه الأخيرة من مد يدها لهذه الجيوب التي لازالت تغذي الريع بمأذونيات وامتيازات واستثناءات في مجالات متعددة. هذا العجز والفشل ربطه محمد المسكاوي، رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام، بغياب الإرادة الحقيقية للقطع مع الريع في قطاع يحتكره عدد من النافذين والنخبة في مجالات مختلفة، علما أن المأذونيات نظام تم توظيفه سياسيا من قبل المخزن بعد الاستقلال، من أجل ضمان الولاءات. وقال المسكاوي إن المأذونيات لازالت تمنح من طرف وزارة الداخلية، وهو ما يكشف أن الحكومة أفرجت عن لائحة ناقصة دون إجراءات تجمع بين التشريعي والقضائي وتضمن ضبط هذا القطاع. من جهة أخرى، فإن تعامل الحكومة مع هذا الملف في حدود منتصف ولايتها يؤكد بأنها لا تملك هامشا كبيرا للتدخل لمعالجة مجال المأذونيات الذي تتوزع خارطته المتشعبة ما بين وزارة النقل بالنسبة للحافلات، ووزارة الداخلية التي تتكتم على لوائح المستفيدين من سيارات الأجرة بما تتضمنه من فضائح، علما أن وزارة الفلاحة تجد نفسها غير معنية بالكشف عن لائحة المستفيدين من نهب ثروات المغرب السمكية، بعد أن ساق وزير الفلاحة عزيز اخنوش تبريرا غريبا لجعل هوية هؤلاء ضمن خانة الأسرار، وقال إنهم أصحاب شركات لا يرغبون في الكشف عن أسمائهم، وهو ما يؤكد أن الحكومة لا تتوفر على برنامج متكامل وإرادة سياسية موحدة للقطع مع هذا النوع من الريع، وأن الأمر يتعلق بمبادرات مرتبطة بالإرادة الفردية لبعض الوزراء لإبراء الذمة، وتبييض صفحة الحكومة في مجال محاربة الريع. المقالع ...قانون لتكريس منطق «عفا الله عما سلف» مصطفى الحجري سؤال أين الثروة، الذي تداولته عدد من الفعاليات بالمغرب في الآونة الأخيرة، يجد جزءا كبيرا من جوابه في استمرار الحكومة والدولة في الصمت عن خرق المادة 36 من الدستور الجديد، التي تنص على أنه «يعاقب القانون على الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار والهيمنة، وباقي الممارسات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية». ولأن النوايا الحسنة دون تفعيل لا تحدث الفرق أو التغيير، فإن الحكومة فضلت أن تغسل يديها من ملف ثقيل استنزف ثروات المغرب، وضيع على خزينة الدولة ملايير الدراهم بشكل سنوي، لفائدة حفنة من الأشخاص، من خلال مشروع قانون المقالع الذي أحالته على مجلس النواب. وزير التجهيز والنقل واللوجستيك، عزيز رباح، قال إن مشروع القانون الجديد سيشدد العقوبات والجزاءات على كل من خالف الشروط القانونية والتقنية والبيئية، لكنه وفي خطوة أفرغت هذا القانون من محتواه فضل استعارة عبارة «عفا الله عما سلف»، التي اشتهر بها رئيس الحكومة، بعد أن تعهد بعدم المس بالمستفيدين الحاليين من المقالع التي يفوق عددها 2011 مقلعا، لتستمر الحكومة في خطواتها العرجاء في مجال محاربة الريع. الرباح أعلن بوضوح أن هذا القانون لن يكون هدفه القطع مع الريع، بل تحرير القطاع وفتحه أمام المنافسة لكي لا يبقى حكرا على البعض». في هذا الصدد أكد محمد المسكاوي، رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام، أن ما تقوم به الحكومة هي خطوات للاستهلاك والدعاية عوض الحسم مع نهب الثروات الوطنية، بعد أن تحولت المقالع إلى دجاجة تبيض ذهبا لبعض المحظوظين، الذين لا يدفعون أي سنتيم لخزينة الدولة، ما يضيع على المغاربة ملايير الدراهم التي كان من الأولى أن تذهب للمجهود التنموي. وأضاف المسكاوي أن مقتضيات الدستور واضحة، وأن الحكومة كان عليها أن تبادر لتفعيل إجراءات لتزيل المقتضيات التي جاء بها دستور 2011، لكنها أظهرت عجزا كبيرا وترددا واضحا في التعاطي مع عدد من الملفات بعد أن وضفتها انتخابيا، وقال إن الحكومة جاءت عبر حراك نادى بالقطع مع الفساد لكنها فضلت أن «تكرسه وتتعايش معه». الريع يتسع ليشمل استغلال الأراضي ورخص الاستيراد يبدو تحديد أشكال اقتصاد الريع بدقة مهمة صعبة، بسبب طبيعة النسيج السوسيو-اقتصادي المغربي، والتأثير الذي يمارسه المجال السياسي على المستوى المحلي. وتبعا لذلك، فإن خانة اقتصاد الريع بالمغرب تتسع لتشمل العديد من المظاهر، منها تفويت الأراضي بأثمنة بخسة دون منافسة بين الشركات، وهو الأمر الذي مازال مستمرا حتى في عهد حكومة الإسلاميين، التي رفعت شعار محاربة الفساد واقتصاد الريع، حيث لازالت شركة معروفة تستفيد من أراض شاسعة بأثمان زهيدة درت على صاحبها أرباحا طائلة، فيما يتم استبعاد شركات أخرى. ومن مظاهر الريع الأخرى التي تثير الانتباه في المغرب استفادة شخصيات نافذة وسياسيين وعسكريين من أراض زراعية شاسعة دون عقود رسمية، يستغلونها منذ عشرات السنين لحسابهم ولا يسددون عنها أي ضرائب، وكذا استفادة محظوظين محسوبين على رؤوس الأصابع من رخص التصدير والاستيراد، تجعلهم يتحكمون في عائدات الاستيراد، في حين يبقى المتضرر الأول، هو المواطن المغربي، الذي تفرض عليه في بعض الأحيان أثمنة خيالية، من أجل اقتناء مادة معينة يتم استيرادها من الخارج. فتحمل المسؤولية مثلا في وزارة التجارة والصناعة وإشراف هذه الوزارة على منح رخص الاستيراد والتصدير ورخص تجار الجملة وصفقات توريد وتصنيع المواد الأساسية، جعل الكثير من المسؤولين يستفيدون من مراكمة رؤوس الأموال بطرق مختلفة عبر شبكة من علاقات الزبونية. رخص الصيد البحري..الصندوق الأسود المهدي السجاري غياب رؤية واضحة للحكومة في التعاطي مع ملف الترخيص للاستثمار في ثروات البلاد، والاستغلال المفوض لعدد من الخدمات العمومية، كان واضحا في الإعلان عن أسماء الأشخاص والشركات المستفيدة من هذه الرخص. وإذا كان وزير النقل والتجهيز قد عمل على نشر لائحة المستفيدين من مأذونيات النقل ورخص استغلال المقالع، فإن وزير الفلاحة رفض الانخراط في العملية، بالإعلان عن المستفيدين من رخص الصيد البحري. ورغم مطالب حركة 20 فبراير بفضح المستفيدين من «اقتصاد الريع»، وحديث بعض الجمعيات العاملة في ميدان الحكامة وحماية المال العام، عن وجود «جنرالات» ضمن المرخص لهم للصيد في المياه المغربية، إلا أن حكومة بنكيران ضربت جدارا سميكا على هذا الملف، وجعلته «صندوقا أسود» لا يعلم المغاربة ما يدور بداخله. وزير الفلاحة، وأمام المطالب الملحة لعدد من الفعاليات المدنية وأيضا داخل المؤسسة التشريعية، للكشف عن لائحة المستفيدين من رخص الصيد البحري، خرج ليرد على هذه المواقف بالتأكيد على أن هذا القطاع لا يدخل ضمن اقتصاد الريع. ففي أحد اللقاءات داخل مجلس النواب، نفى وزير الفلاحة ما يروج بشأن وجود أسماء عسكريين كبار يستفيدون من رخص الصيد في أعالي البحار، حيث وصف تصور المغاربة لهذا الموضوع بالمضخم. وخلال إحدى جلسات الأسئلة الشفوية بمجلس النواب، أكد أخنوش، ردا على سؤال للنائبة كجمولة بنت أبي، عن فريق التقدم الديمقراطي بمجلس النواب، أن كل رخصة هي استثمار وترتبط حتما بمشروع وتمنح للسفن وليس للأشخاص على أساس دفتر للتحملات مشيرا إلى أن «هذه الرخص غير قابلة للكراء». الوزير أكد على وجود استثمارات ضخمة في هذا القطاع، ومنها أن الأسطول الوطني المجهز لاستغلال الثروات البحرية، يصل إلى 350 باخرة للصيد بأعالي البحار، و1800 باخرة للصيد الساحلي، و15000 قارب للصيد التقليدي. لكن موقف التكتم الذي تمارسه الحكومة على الموضوع، دفع الكثيرين إلى التشبث بمطلب الكشف عن المستفيدين من الرخص، واعتبار موقف الحكومة عن وجود «أسرار» أشياء لا يعلمها إلا المستفيدون من هذه الرخص، والوزارة التي تدبر هذا القطاع الحيوي. بعض المتابعين اعتبروا أنه حتى ولو أقدمت الحكومة على نشر لائحة رخص الصيد البحري، فإنه لن يتم الكشف عن المستفيدين الحقيقيين منها، على اعتبار أن عددا كبيرا من المشتغلين في القطاع يشتغلون ضمن شركات.