أكد الدكتور إدريس لكريني، المحلل السياسي وأستاذ القانون العام بكلية الحقوق بمراكش، أن المشهد النقابي في السنوات الأخيرة أصبح مشتتا وكثيرا ما تحكمت في مساره الاعتبارات السياسية أكثر من المصالح الاجتماعية للعمال، مؤكدا أن المغرب شهد حراكا كشف البون القائم بين مطالب المواطن وانشغالاته وانتظاراته من جهة، واهتمامات النقابات والأحزاب السياسية، التي كانت تعيش على إيقاع الكثير من الاختلالات على مستوى الانفتاح على قضايا المواطن من جهة أخرى. في هذا الحوار، يتحدث المحلل السياسي عن أسباب العلاقة المتوترة بين النقابات والحكومة وتأثير تداخل النقابي والسياسي وغيرها من المحاور. - أصبحت العلاقة بين الحكومة الحالية والنقابات متوترة ما جعل بعضها يقاطع جلسات الحوار، برأيكم ما هي أسباب ذلك؟ ينبغي الإقرار بأن حكومة عبد الإله بنكيران جاءت في ظرفية صعبة للغاية، حيث كانت أجواء الحراك لا زالت تخيم على البلاد، علاوة على تداعيات الأزمة المالية الدولية على الاقتصاد المغربي، فيما ظلت الاحتجاجات ذات المطالب الاجتماعية تعم مختلف القطاعات والمناطق. وفي المقابل، وجدت هذه الحكومة نفسها أيضا أمام مقتضيات دستورية وظروف سياسية وفرت لها هامشا أكبر وأوسع للتحرك في مباشرة مهامها مقارنة مع التجارب الحكومية السابقة. حقيقة أن وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة إضافة إلى عوامل موضوعية أخرى، أسهم إلى حد ما في تراجع حدة الاحتقان التي طبعت المشهد السياسي في هذه المرحلة، وهو ما ظل رئيس الحكومة يردده إلى حدود الساعة. لكن في المقابل ينبغي الإقرار بأن مجيء الحكومة في هذه الظرفية لم تكن المراهنة فيه فقط على هذا الجانب، فمهمتها لا تقتصر على تدبير مرحلة لتحقيق الأمن في بعده الضيق، بل هناك برنامج حكومي تم طرحه في بداية ولايتها وكانت هناك اختلالات وانتظارات كان من اللازم الإبداع في التعاطي معها بصورة تدعم تحقيق الأمن في بعده الشمولي والواسع. لا شك أن أداء الحكومة لم يكن منعدما على المستوى الاجتماعي، حيث تمت مراكمة العديد من المكتسبات في قطاعات مختلفة، لكن تبين أن هناك الكثير من المعضلات الاجتماعية لا زالت قائمة. يبدو أن مظاهر التوتر القائم بين الحكومة والنقابات تعود إلى مجموعة من العوامل، ففي الوقت الذي اتهم فيه رئيس الحكومة بعض المركزيات بالتنكر لإنجازات الحكومة وبالخلط بين عملها النقابي والسياسة، وتحولها من الدفاع عن قضايا العمال إلى الدفاع عن أجندات سياسية وحزبية، أكدت هذه المركزيات على التوجهات اللاشعبية للحكومة في مقابل إرضاء المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، عبر استهداف القدرة الشرائية للمواطن، والطبقة العاملة على وجه الخصوص، وضرب المرافق العمومية، والتراجع عن مجموعة من المكتسبات في هذا الصدد. علاوة على اتهامها بعدم استحضار المقاربة التشاركية المشار إليها في الدستور وتهميش دور النقابات في مقابل بعض الهيئات الاستشارية.. - تزايدت حدة الاتهامات النقابية للحكومة بمحاولة مصادرة العمل النقابي والإجهاز على المكتسبات، مع تسجيل تصعيد غير مسبوق بعد التلويح بالإضراب العام، بماذا تفسرون هذا التطور في تعامل النقابات مع الحكومة؟ لا بد في البداية من الإشارة إلى أن المرحلة الراهنة بتحدياتها وانتظاراتها، تسائل جميع الفاعلين، والديمقراطية لا تتأتى إلا بنقابات وأحزاب قوية ومجتمع مدني على قدر من الفعالية والكفاءة، كما أن الرهانات المطروحة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتطلب اعتماد التشاركية. ومن جهة أخرى، فالحرية النقابية تجد أساسها في عدد من المواثيق الدولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان(المادة 28 تؤكد على الحقوق الاجتماعية وتحث الدول على حمايتها)، والعهدان الدوليان لسنة 1966 (التأكيد على الحق في الشغل، والأجر العادل، والضمان الاجتماعي، وحق تأسيس النقابات، والعيش الكريم، والحرية النقابية..) والإعلان العالمي للتقدم والتنمية في المجال الاجتماعي، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1969(أكّد على المشاركة النشيطة لكل مكونات المجتمع فرديا أو عبر المنظمات والجمعيات في تحديد الأهداف المشتركة للتنمية..).. كما أن الدستور المغربي أشار في فصله الثامن على أن المنظمات النقابية «تساهم في الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للفئات التي تمثلها، وفي النهوض بها..» وأكد على أن السلطات العمومية تعمل على «تشجيع المفاوضة الجماعية، وعلى إبرام اتفاقات الشغل الجماعية، وفق الشروط التي ينصّ عليها القانون». العمل النقابي يملك عدة وسائل للضغط والتأثير إلى جانب المفاوضات وعقد الاتفاقيات، لكن التلويح باللجوء إلى الإضراب العام، يفرض على الحكومة التعاطي معه بجدية والسعي إلى اعتماد حوار بناء عن طريق تجاوز الخلافات القائمة. وقبل بضعة أشهر تكتلت ثلاث مركزيات نقابية تتألف من الاتحاد المغربي للشغل والكنفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل ضمن مسيرة احتجاجية بمدينة الدارالبيضاء، رفعت خلالها شعارات تنتقد الأداء الحكومي على المستوى الاجتماعي، وهو توجه يجد مبرراته في استمرار المعضلات الاجتماعية ووجود مقتضيات دستورية ذات الصلة بالقضايا الاجتماعية تتطلب التنزيل على وجه سليم وتشاركي، علاوة على اعتماد بعض الزيادات التي أثقلت كاهل المواطن. - الحكومة تدافع عن بعض القرارات ومنها الزيادة في أسعار المحروقات والرفع الإلزامي لسن التقاعد، وتحاول إعطاء الانطباع بأن الأمر يرتبط بمصلحة وطنية، هل هذا التبرير كاف لنزع المشروعية عن المطالب النقابية؟ نجحت الحكومة إلى حد معقول في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي للمغرب، رغم تداعيات الأزمة المالية التي أرخت بظلالها القاتمة على الاقتصاد المغربي منذ بداية التجربة الحكومية، حيث تم اتخاذ مجموعة من المبادرات، وإن كان جزء منها ينطوي على حلول بسيطة مرتبطة بالعودة إلى المواطن، عبر اعتماد زيادات في عدد من المواد الحيوية المحروقات، بدل البحث عن خيارات وسبل استراتيجية في علاقتها بإصلاح المنظومة الضريبية وجلب الاستثمارات ومكافحة الفساد في مختلف المؤسسات والجماعات المحلية. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن إصلاح نظام المعاشات، حقيقة أن هناك حاجة ملحة تدعم هذا الأمر بالنظر إلى التقارير المحذّرة في هذا الشأن، لكن الإصلاح المطلوب يفترض دائما البحث عن حلول استراتيجية ونقاشات منفتحة واسترداد الأموال المنهوبة. فتجاوز اختلالات نظام المعاشات التي تراكمت بفعل الفساد لا ينبغي تحميل تداعياتها لفئات معينة ليست مسؤولة عنها. النقابات متخوفة من صدور قانون الإضراب بصورة لا ترقى إلى تطلعات الفاعلين الاجتماعيين، حيث سبق أن أعربت عن استيائها من مشروع القانون واعتبرته تحكميا، كما عبرت عن رفضها لرفع سن التقاعد بالنسبة للموظفين الخاضعين للنظام الأساسي المتعلق بموظفي وزارة التربية الوطنية. أعتقد أن عودة النقابات إلى الواجهة لا يعبر عن أزمة بين الحكومة وهذه الفعاليات، فمهام هذه الأخيرة هي مواكبة السياسات الاجتماعية والتشريعات ذات الصلة واحتضان مطالب القوى العاملة والدفاع عنها. لذلك نحن أمام وضعية طبيعية، ربما أسهم الركود الذي ميز المشهد النقابي خلال السنوات الأخيرة رغم وجود مبررات واختلالات كبيرة، وخروج عدد من المحتجين في غياب تأطير نقابي أو تبني بعض الجمعيات لمطالب وتوجهات نقابية، في اعتبار التطورات الأخيرة أمرا غير طبيعي. - ألا تعتقدون أن التداخل بين ما هو سياسي ونقابي، والسقوط في توظيف بعض الملفات من طرف نقابات لفائدة أحزاب تدور في فلكها أدى إلى انقطاع حبل الود بين الحكومة والنقابات؟ كثيرا ما تأثر العمل النقابي بالتموقعات السياسية للأحزاب وحسب ما إذا كانت في المعارضة أو الأغلبية، حيث انخرطت بعض النقابات في تبرير بعض السياسات الاجتماعية والاقتصادية المجحفة.. فيما تحولت أخرى بين عشية وضحاها من المهادنة إلى المواجهة تحت وقع هذه التحولات والتموقعات السياسية. فرغم بروز محطات اجتماعية صعبة، بدا المشهد النقابي في السنوات الأخيرة مشتتا وكثيرا ما تحكمت في مساره الاعتبارات السياسية أكثر منها المصالح الاجتماعية للعمّال، ممّا أتاح لبعض الجمعيات تبني مواقف اجتماعية تدخل ضمن خانة اهتمامات العمل النقابي. كما برزت مجموعة من الاحتجاجات والمظاهرات، غلب عليها الطابع التلقائي وتمت بشكل فردي وجماعي، ولم تخضع في غالبيتها لتأطير نقابي، مما جعلها تتخذ أحيانا أشكالا قاسية وغريبة من قبيل حرق الذات أو التعرض للقطارات أو التكبيل بالسلاسل.. بصورة تعكس تنامي المعضلة الاجتماعية، وتبرز أن الخطوات الملحوظة التي قطعها المغرب على مستوى توسيع هامش حقوق الإنسان في أبعادها السياسية والثقافية، لم يوازها نفس التطور على مستوى تعزيز الحقوق الاجتماعية المرتبطة بالسكن والصحة والشغل والتعليم وتعزيز القدرة الشرائية، من جهة، وتعكس ضعف الهيئات النقابية وارتباكها في تمثيل وتأطير المواطنين ومعانقة قضاياهم وهمومهم اليومية من جهة أخرى. أسهم الحراك الذي شهده المغرب في كشف البون القائم بين مطالب المواطن وانشغالاته وانتظاراته من جهة، واهتمامات النقابات والأحزاب السياسية التي كانت تعيش على إيقاع الكثير من الاختلالات على مستوى الانفتاح على قضايا المواطن، وتجديد النخب واعتماد الديمقراطية المحلية والخلط بين العمل السياسي والنقابي.. وكما هو الشأن بالنسبة للعدد من الأحزاب السياسية التي بدأت تعيش مظاهر من الحراك الداخلي، يبدو أن رياح التغيير بدأت تدب في أوساط النقابات، فهناك توجه نحو تنسيق المواقف بين بعض المركزيات.. - كيف تصفون التعاطي الحكومي مع المطالب النقابية، وهل تعتقدون أن حدة التصعيد ستزيد، خاصة أن المغرب مقبل على استحقاقات جماعية؟ بغض النظر عن مواقف ومبررات الطرفين، هناك تحديات اجتماعية وهناك اختلالات تسائل الطرفين، ففي الوقت الذي ينبغي فيه على الحكومة اعتماد أساليب منتظمة للحوار مع مختلف النقابات ومكافحة الفساد بكل صوره الإدارية والمالية، وإصلاح القضاء والسعي لفرض احترام قانون الشغل، ومواجهة كل مظاهر التضييق على العمل النقابي وتجاوز المقاربة الأمنية في علاقتها بالتدخلات العنيفة والاعتقالات.. على مستوى التعاطي مع الأنشطة النقابية والإضرابات، واعتماد الصرامة في صد الاختلالات والانتهاكات التي تباشرها بعض المقاولات والشركات في مواجهة العمال، وإصلاح المنظومة القانونية انسجاما مع مقتضيات الدستور، واعتماد المقاربة التشاركية في هذا الصدد، فإن النقابات بدورها تظلّ بحاجة إلى تجاوز التشتت الذي أسهم في تراجع أدائها خلال السنوات الأخيرة، واعتماد الاستقلالية والديمقراطية الداخلية الداعمة لتجدد النخب والبرامج والرؤى، وتجاوز الخلط بين العمل النقابي والحزبي، والحرص على الحضور المستمر في عمق المجتمع ومواكبة مشاكل وتطلعات الطبقة العامة، والموازنة بين المطالب المادية وتلك المتعلقة بالضمانات الداعمة لأوضاع العمال.