بعد معاناة كبيرة بسبب الغربة بدأت تراود محمد بصير فكرة الرحلة إلى سوريا، وبالضبط إلى دمشق العاصمة، التي كانت تضم العديد من الطلبة المغاربة الذين اختار بعضهم الهجرة طوعا، فيما أرغم آخرون على ذلك بسبب الظروف السياسية التي كان يعيشها المغرب، بسبب الصراع بين الحركة الوطنية والقصر الملكي، وخاصة جزء من اليسار ممثلا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد الإطاحة بحكومة عبد الله ابراهيم وما تلا ذلك من تطورات على الساحة السياسية، والاعتقالات الكثيرة التي سيشهدها المغرب بعد أحداث سنوات 1961م و1963م و 1965م، التي زج بسببها بالكثير من مناضلي الحركة الوطنية في السجون، وتم التنكيل بهم، لتكون البلاد العربية ملاذا للكثير من الهاربين منهم من بطش تلك المرحلة، وكانت سوريا أهم الوجهات المفضلة لهؤلاء المناضلين والطلبة. سيحصل الشاب محمد بصير بمصر على منحة من المنظمة الطلابية «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، فرع القاهرة، وهو ما تكشفه رسالة بعث بها إلى شقيقه المصطفى بصير بذات المناسبة. كان الدافع وراء اختيار الانتقال إلى سوريا شخصيا وهو ما تشرحه رسالة بعثها إلى شقيقه المصطفى بصير «.. إنني أخبرتك بأنني سأترك القاهرة، فطلبت مني السبب، ومن حقي أن لا أجيبك عنه لعدة أسباب، ولكن نظرا لأنك أخي وأقرب الناس إلي يجب علي أن أبين لك .. إنك تعرف أنني كبير في السن وأن ساعة واحدة زيادة زادت من عمري وأن أي لحظة فاتت تفوت من عمري، وأن اغتنام الفرص من حقي وواجبي أن أغتنمها والظروف المحيطة بي تحتم علي ذلك .. أردت من قدومي دمشق أن أغتنم الفرصة وأختصر السنوات المفروضة علي قضاؤها بالقاهرة بدون جدوى، فبدلا من ثلاث سنوات التي كنت سأقضيها بالقاهرة ستصبح هنا سنة واحدة». كانت العائلة وجهت لوما شديدا للابن محمد بصير على قراره التوجه لسوريا، بل ووجهت له رسالة تحثه على العودة سريعا لأرض الوطن، «عليك أن تنظر في أمرك لترجع إلى بلدك لتتابع كفاحك بين أهلك وذويك قريبا منهم تشاطرهم الحياة بما فيها، إن في بلادك العلم الذي لم تستوعبه لشد الرحال إلى غيره»، رسالة من العائلة بتاريخ 09 أكتوبر 1965. ساءت العلاقة بين محمد بصير وعائلته في بداية مقامه بسوريا مما زاد من متاعبه وجعلها مرحلة أشد صعوبة من مرحلة استقراره بالقاهرة. كانت العائلة تعول على قطع العون المالي عن الطالب ليفكر في أمر العودة، مما زاد من معاناة محمد بصير وهو الطالب غير الممنوح هناك بأرض دمشق. كشفت الرسائل المتبادلة بينه وبين أشقائه الحالة النفسية التي كان عليها، وكثيرا ما اشتكى لشقيقه المصطفى بصير من تلك الحالة، سيتلقى محمد بصير صدمة ثانية وهو ببلاد المهجر، عندما تلقى خبر وفاة شقيقه الأكبر وشيخ الزاوية البصيرية الحاج عبد الله البصير، كان المثال الذي عاشره وعاين همته، كان الشيخ عبد الله البصير منخرطا في الشأن العام على عكس والده الشيخ إبراهيم البصير. تلقت الزاوية البصيرية ظهيرا بالتوقير من الملك محمد الخامس في عهد الشيخ الحاج عبد الله وذلك نظير جهوده الوطنية الكبيرة في توحيد شرفاء الرقيبات ومبايعتهم للسلطان محمد بن يوسف محمد الخامس وهو الظهير الذي يضم أسماء أبناء الشيخ سيدي ابراهيم البصير ومنهم اسم الشقيق الأصغر محمد بصير. كان خبر وفاة الشيخ الحاج عبد الله على نفسية محمد بصير كبيرا، وهو ما تكشفه رسالة بعثها لخليفة الشيخ على الزاوية وشقيقه الحاج الحبيب وهي الرسالة المؤرخة يوم 30 غشت من سنة 1965. كان الحس الصوفي والتشبث بقيم الدين الإسلامي وحب الوطن مسيطرا على كل الرسائل التي يبعثها محمد بصير لعائلته ولإخوانه، ولم تنقطع تلك الرسائل رغم قرار العائلة وقف الدعم المالي عن شقيقهم بسوريا لإرغامه على العودة لأرض الوطن، كان طموح الشاب كبيرا، لذلك ورغم الظروف التي مر منها الطلبة المغاربة في سنة 1965، والتي جعلت بعضهم يغادرون المؤسسات التعليمية السورية، بقي الشاب محمد بصير هناك يعاني الجوع والعطش والتشرد، وهو ما تكشف عنه رسائله لشقيقه مصطفى بصير حيث كان يطلب منه العون في كل رسالة، كانت تلك أشد اللحظات التي مر بها محمد بصير وهي الفترات التي جعلت عوده يشتد رغما عنه، تخبط الشاب في أمر بقائه بسوريا أو العودة للقاهرة أو الذهاب للأردن حيث يمكنه أن يعيش بكرامة مترددا على بعض مؤسساتها التعليمية، كان الفرج هو توصله فيما بعد بمنحة دراسية جعلته يتغلب على كل تلك الصعاب، ويخرج من عالم التشرد والجوع الذي كابده أياما عديدة. يكشف عن ذلك في إحدى رسائله المؤرخة بيوم 2 نونبر 1965 واصفا وضعه المأساوي: «قضيت يومين من التشرد، ملابسي في جهة، وأنا في أخرى كنت أذهب من الصباح حتى المساء، من جهة إلى جهة ومن شارع إلى آخر سعيا في إيجاد ولو معونة أضمنها لتساعدني في عيشي هذه السنة من الوزارة إلى الرابطة ومنها إلى السفارة والقيادة السورية، وفي المساء أحتاج إلى محل أضع فيه جسمي من عناء التعب، فقلما أجده عند زميل فوق كنبية أي كرسي طويل فأمتد عليه رغم الجوع والتعب، وأخيرا علمت من جهة رسمية أنني مهما عملت فلن أستطيع أن أحصل على أي منحة أو معونة خلال هذه السنة، والآن ساعتي مرهونة فيما أخذته من عند بقال وأنا لازلت متشردا هنا وهناك، ولحد كتابة هذه السطور لا أدري أين المكان الذي أنام فيه أو ثمن ما أشتري به رغيف عيشي أو أبعث لك به هذا الخطاب، تصور أنني لم أذق الطعام من ليلة البارحة والساعة الآن 7 مساء «، كانت كل الرسائل يوقعها بصفته التالية وعنوانه: محمد بصير طالب مغربي ص ب 779 دمشق .