« إن صنع السلام أصعب من خوض الحرب، لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحيانا مقاربات جديدة وصعبة، والتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف «، بهذه الكلمات بدأت الكاتبة البريطانية انجليكا روتر تصف حياة نساء دافعن عن حقوق الإنسان بشجاعة ومثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والحرية والسلام حتى كوفئن أخيرا بجائزتها العالمية التي أوصى بها ألفريد نوبل قبل وفاته تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل...، إنهن نساء دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرّية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان.... إنهن نساء السلم والسلام». «عزيزتي وصديقتي البارونة» هي العبارة التي تزيّنت بها إحدى رسائل ألفريد نوبل للسيدة برتا فون شوتنر التي تحمل شهادة ميلادها (برتا صوفي فيليشيتا كونتيسة شينيك وتيتو ...)، تلك المرأة الجميلة المُشعة والمُشبعة حقاً بالتاريخ الذي تأقلمت معه من خلال روايتها فلتسقط الأسلحة، وجسّدت بملامحها الشخصية الرئيسية للكونتيسة ماريا الثوس التي باتت تعرف بكونتيسة دوتسكي، تلك الشابة النبيلة في فيينا التي تحمل بعض سمات برتا وفقا لسيرتها الذاتية وبطلة روايتها، بعد أن كشفت النقاب عن شخصيتها حيث استعجال الحث على الجريمة والخلود النبيل لبطل الحرب ومتعة الجندي الحسّية في إخضاع العدو، إنها الفتاة نفسها التي توفي العديد من أقربائها بسبب الكوليرا والحروب الأوربية الكبرى (الحرب النمساوية البروسية ضد الدانمارك 1864، الحرب الألمانية الفرنسية 1870/1871) والأرملة التي فقدت زوجها بعد أن أطلق عليه الفرنسيون النار وأردوه قتيلا عام 1871 بتهمة التجسّس، إنها نفسها برتا فون شوتنر التي انتفض النقاد والجمهور ضدها لحظات نشر روايتها التي لن تمّس مشاعر القراء ولن توقف الحرب، ولن تشجّع الناشر أدغار بيرسون في درسدن على نشرها، بعد أن رفضت تغيير عنوانها قبل أن يحقق الناشر نفسه ملايين الدولارات من الأرباح، حيث طبعت الرواية لأكثر من سبعة وثلاثين مرة وترجمت إلى ست عشرة لغة، ودغدغت مشاعر الملايين حتى بلغت القارة الأمريكية، وانطلقت معه صحيفة (نويه فراي الفييّنية )عام 1890 لتكتب وفي صفحاتها الأولى وتقول».... بالرغم من المواقف البطولية إلا أن شوتنر اتخذت مواقف ضد الاتجاه السائد في هذه الأزمنة، وأعلنت الحرب على الحرب، فلم يسبق للروح الحربية أبدا أن اُظْهرَتْ بهذه الطريقة الجذرية مقدار البؤس الذي نشرته شوتنر حولها، وكم يمكن للحياة أن تكون جملية بالرغم من ازدراء المُشبعين بالروح الحربية لها، لقد أظهرت الحياة المُثيرة التي عاشتها امرأة اضطلعت بمهمة محفوفة بالمخاطر عند انعطاف القرن وفي زمن تأسيس مملكة الدانوب حين انتقالها بين السياسة ومناهضة الحرب وبين الأدب والصحافة، بين الحركة المناصرة للنساء والليبرالية وطبقة النبلاء النمساوية والرعاية الدولية، وكل ذلك تم بمهارة وعزم حتى أصبحت شخصا معلوما بعد أن كانت شخصا مجهول الهوية، إنها امرأة عملت بجهد وثقة كبيري، ولم تكن الإفادة من قدرة التطوير التي يتمتّع بها البشر تسبّب لها التعب، وكانت تُعبر عن ذلك بالقول دائما: لقد ظهرت الحقيقة الأبدية، والحقيقة الأبدية على الدوام في سماء بصيرة الإنسان، لكنها أنْزلت من السماء ووُضعت في قوالب ومُلئت بالحياة وأصبحت بالتالي مآثر ليس إلا، ففي الوقت الذي تدعى فيه هذه الأمور بالمثل العليا إلا أنها مازالت تطفو في عالم الأفكار، وحالما يتم تحويلها إلى شكل مرئي حيّ وفعال حينها فقط تعتبر تقدّما مُنجزاً...». كانت فون شوتنر قد نشرت روايتها (فلتسقط الأسلحة) أثناء دخول الحركة المناهضة للحرب مرحلتها الجديدة إبّان الاحتفال بمئوية الثورة الفرنسية بعد أن رفع الأصدقاء البرجوازيون شعارهم الثوري: حرية، مساواة، إخاء، وأخذوا يتجمّعون في عاصمة النور باريس لحضور مؤتمر السلام العالمي الذي بدأ يعقد في حزيران /يونيو 1889 مرتكزين على بنود إعلانهم الثوري الذي صدر عام 1789 «.... إن الإخاء بين البشر يفترض مُسبقا إخاء بين الشعوب،..» وهو تذكير أضحك شوتنر لحظات لقائها نصير السلام الإنجليزي (فيلكس موشلز) الذي قرأ روايتها وأثارت مشاعره بعمق، لقد أضحكها فعلا بسبب ردة فعله التي أبداها حول الرواية بعد أن بات يقول لها وبتعجب: إذاً أنت لست ميتة!!، أليس كذلك، إنك لا تزالين حية!!، فقد كان فيلكس قد ربط بين المؤلفة شوتنر والشخصية الرئيسية في روايتها (فلتسقط الأسلحة) التي أحدثت جلبة سريعة في معسكرات الحرب والسلام، ومنحت قوتها نجاحا لتنظيم جمعيات السلام في النمسا وإيطاليا 1891 قبل أن تنتقل إلى معظم الدول الأوربية نظير انتساب الشخصيات البارزة في لجنتها أمثال شاعر شعب ستيريا (بيتر روزيغر)، والكاتب المسرحي ( لودفيغ فولدا)، ومؤسس مجلة داي غزلشافت والعضو القومي الليبرالي في الريشستاج (مايكل جورج كونراد)، وعالم الطبيعة وفيلسوفها (ارنست هيكل) وغيرهم من شخصيات المسرح السياسي الذين وافقوها الرأي من صميم قلبهم دون أن يبدي أحد منهم تولي مهام محددة لتحقيق السلام. كانت برتا فون شوتنر مُقتنعة تماماً بوجوب فرض السلام من أعلى الهرم حتى أسفله، لا تشعر بالرهبة أبدا لحظات سخرية البعض منها وبشكل علني وفي هذا تقول «... كانت التسميات الساخرة التي بدأ يُطلقها بعض مناوئي السلام ومؤيدي الحرب لا تشكل لي سوى حافزا حتى أكتب وأمضي إلى تحقيق السلام، كنت أربط الأمور وبمهارة بموضوعي الرئيسي ألا وهو السلام، أردد على الدوام: لحسن الحظ أن أولئك الذين يُشعلون الفتيل ببطء هم شديدو الحرص على إشعال البارود...، إنهم يعلمون أن العواقب ستكون مُدمرة مع احتياطات البارود، هذا إذا ما أشعلوا النار بسبب الإهمال أو عن سوء نية وبشكل مُتعمّد، إنهم يسعون إلى البارود ونحن نسعى إلى الإمساك بفتيله ونزع الأسلحة، لقد كان بالإمكان توقع قيام الأشرار ذائعي الصيت بمهاجمتي ومقاطعة خطابي، لكن شيئا لم يحدث، فها هانا ذا أقول ما لدي وأنا أقف بهدوء أمامكم من دون تصنّع وبفرح، وها أنتم تُصفقون لي بدهشة..»، هكذا عبّرت شوتنر في خطابها بمؤتمر السلام العالمي الثالث في روما تشرين الثاني /نوفمبر من العام نفسه بعد أن بدأ مؤيدو الحرب يسخرون منها ويطلقون عليها كاهنة النزعة العاطفية المتذمرة . « وا أسفآه.... لماذا لم أولد فتى!!»، هكذا بدأت تقول شوتنر في القسم الأول من روايتها (فلتسقط الأسلحة) مُتنهدة بعد أن جالت في فكرها حياة الماضي البائس، وعندما كان التاريخ وقفاً على الرجال، وكان الأبطال المُمتدحون في الكتب المدرسية يقاتلون ويموتون حبّا للوطن، لقد كانت ولادتها في قصر كينسكي في ألشتادر رينغ ببراغ ( 5 حزيران/يونيو 1843) ولادة تخلو من مظاهر البهجة والفخامة كمثيلاتها من أبناء الطبقة الحاكمة هناك، فوالدها الذي لا يملك سوى شقة صغيرة، فقد رحل في الخامسة والسبعين من عمره تاركا إيّاها تعاني رفقة شقيقها ووالدتها التي بقيت محتقرة جدا بسبب نسبها الناقص ( كونها لم تلد ستة عشر سلفا حسب عادات وتقاليد المجتمع حينها)، وبسبب وفاة زوجها الذي تركها في عزلة ودون حماية، إنها امرأة بلا زوج واتخذت حياة الوالدة صوفي وابنتها برتا منحنى لعبة البوف آند باف: تخيل الحياة وسط النخبة وكل شيء ينتهي وتبقى الخيبات والتحقير والمعاناة، لقد كان حظها عاثرا ومؤلما قبل أن يتبدل سريعا بعد أن قامت الحروب وأدت إلى تبديل موقفها وموقعها تماما، بدأت تقرأ كل ما يطال يدها من المعرفة مثل شكسبير، غوته، شيلر، ألفرد موسيه، ديكنز، بولر وروايات جورج ساند، بالزاك، ومسرحيات كورناي وراسين وموليير بعد أن أجادت العديد من اللغات، لقد أضحت باختصار مكتبة ضخمة من المعرفة التي حصلت من خلالها على جائزة نوبل للسلام عام 1905 بعد أن كانت امرأة بلا نسب. « ما تهبه للأخر هو لك وما تحتفظ به يضيع للأبد»، هكذا بدأت تردّد شوتنر مقولة الشاعرة الأكثر شهرة في جورجيا (شوثا راثاوبلي) في قصيدتها الملحمية الوطنية الفارس المقدام في جلد نمر، قبل أن تكمل يومياتها التي نشرت في مؤتمر لاهاي للسلام 17 أيار/مايو 1899 بالقول «.. عندما نُفكر في بعض المُعادين للسلام وسلوكاتهم المُباحة فإننا نشعر بقلق شديد، فهناك وسيلة صادقة واحدة فقط لحماية المضطهد من الاضطهاد هي الوقوف إلى جانبه»، لقد كانت تحمل السخرية والرفض في ظلّ شعورها بالوحدة بعد وفاة والدتها وشقيقها آرثر فيما بعد، تضاءل الأمل في تغلب المنطق على قوة السلاح، والسلام والأمن على الحروب، تردّد كلماتها دون أن تترنح «...الصلاح يعني الضعف فهما كلمتان متطابقتان تقريبا، لكن سيكون على الناس أن يدركوا إمكانية وجود عباقرة وأبطال لتتويج هذا السلاح بنوايا صالحة ونبيلة دون اللجوء إلى سياسة السيف المُستل..»، بقيت متفائلة بإمكانية إحلال السلام حتى وفاتها بعيد احتفالها بعيد ميلادها السبعين بقليل ( 21 حزيران/يونيو 1914 ) بعد أن رقدت رقدتها الأخير نظير إصابتها بسرطان المعدة ولفظت كلماتها الأخيرة « ...لقد ظهرت الحقائق الأبدية، والحقوق الأبدية على الدوام في سماء بصيرة الإنسان، لكنها أنزلت من السماء ووضعت في قوالب وملئت بالحياة وترجمت أعمالا، لكن إحدى هذه الحقائق والأعمال هي أن السلام هو الأساس والغاية النهائية للسعادة، سنبلغ السلام العالمي، سنبلغه، لكن خطوة خطوة...، وعلى الحكومات الالتزام بواجباتها حيث الوصول إلى وقت لا يعود فيه السيف هو الحكم بين الشعوب...، قولوا للجميع فلتسقط الأسلحة...أنا ذاهبة إلى دوراتسو..»، وهناك كانت النزاعات الجديدة التي نشأت حول ملكية دوراتسو التابعة لألبانيا، والتي كانت تشكل لبرتا شوتنر أكثر أهمية من مرضها العضال، وبعد وفاتها بأسبوع اندلعت الحرب العالمية الأولى... إعداد وترجمة معادي أسعد صوالحة