« هناك من الرجال من يُعجبوننا عندما نُبحر معهم في صفحات التاريخ الدموي العميق، ونرى النفس البشرية على حقيقتها عندما تتحوْل إلى وحش لا يشبع من سفك الدماء، ولا يغمض جفنه قبل التمثيل بالآخرين...، نؤْسَر بحكاياهم لحظات وصولهم إلى السلطة أو التربّص بخصومهم قبل أن تقشّعر أجسادنا لحظات، نبدأ معها بتلاوة تفاصيل عملياتهم وكيفيات تنفيذها، حيث الدم والقتل أرقى أساليبهم، لكننا نتردّد عن الإعجاب بهم عندما نعي جبروتهم وسفكهم الدماء بمُسميات العدالة أو الضمير الحي، دون رحمة وشفقة ودون الشعور بالرأفة أو الخجل ودون الإحساس بإمكانية وصولهم إلى المصير المؤلم الذي يُساق إليه الآخرون، وهناك إعجاب آخر بحواء ذات الأنامل الناعمة والإبتسامة المُشرقة والقدود الميّاسة التي تتحوْل سريعا من خانة الآدمية إلى خانة الوحشية والدموية، وتتحوْل فيها من مخلوق وديع لطيف إلى ثعبان شرير يلدغ كل من يقترب منه، وقد استقرت فوق قبر معد لدفن أحدهم...إنهم رجال ونساء عبروا بوابة الشر وأصبحوا أشهر السفاحين في التاريخ».. «...إنها شخصية حملت في طياتها مزيجا غريبا من الريبة السياسية الحادة والعداء الشخصي لكل من يختلف معه، حَكم وتمرّد وقتل دون رحمة حتى وصل بحملته إلى طريق التفرّد خلال الثورة وما بعدها، حمل العديد من المفاتيح التي ولكثرتها لم تفصح عن شخصيته الحقيقية، رسم لنفسه صورة فريدة معتقدا بأنه لم ولن يخطئ إطلاقا حتى أخذ يرى نفسه كمصدر للقانون، حاله حال الكثير من الطغاة في التاريخ القديم والحديث والمعاصر، جاء محمولا على أكتاف الثوار إبان الثورة الفرنسية ليحكم فرنسا لثلاث سنين فقط ويقتل الآلاف من ثوارها باسم الثورة نفسها... فأعدم قادتها ووصلت مقصلته لرأس الملك لويس السادس عشر بعد أن جعل الإعدام اليومي رياضته المفضلة، وجمع الرؤوس ومشاهدتها تتساقط عن مقصلته، فيلمه المفضل....، إنه روبسبير ..سفاح الثورة الفرنسية.. ما أن أبصر ماكسميلان روبسبير النور يوم السادس من ماي 1758 بمدينة آراس الفرنسية حتى بدأت حياته تتسم بمسحة حزينة مؤلمة ومتزمتة وغيورة نظير حالة الفقر التي تعيشها عائلته جراء والده المسرف والمبذر والمدمن على شرب الكحول، «...إنه رجل لم يمر بمرحلة الشباب (كما عبرت شقيقته ذات مرة) لكنه كان ذكيا واختير من بين جميع الطلبة ليلقي خطابا بمناسبة تتويج الملك لويس السادس عشر عام 1775 الذي سارع إلى إعدامه لحظات وصوله إلى الحكم، لكنه كان يعاني كغيره من الفرنسيين من ويلات الفقر والحرمان، يحلم مثلهم بالتخلص من هذه الأنظمة الفاسدة والاستبدادية والعيش في دولة حرة يسودها الإخاء والعدل والمساواة، فشق طريقه سريعا وبقوة وعزم حتى أنهى دراسته القانونية وأصبح محاميا شهيرا عام 1789 وممثلا للطبقة الثالثة في قصر فرساي الشهير، يتميز بقدرته الخطابية وبلاغته المؤثرة وأناقته المفرطة وأدبه الجم وحرصه الشديد على الفضيلة وآداب السلوك بقامته المتوسطة وجسده النحيل ورأسه الكبير إلى حدّ ما..». بتلك المواصفات الشخصية المتعدّدة والمصحوبة بآرائه السياسية الداعية إلى الحرّية والمساواة وإقامة العدالة وجد روبسبير نفسه سريعا نائبا لرئيس مجلس الطبقات في اجتماعه المؤرخ عام 1789 عشية اندلاع الثورة الفرنسية، قبل أن يلتحق سريعا بالجمعية التأسيسية الوطنية المكونة من ممثلي الشعب، ويلمع نجمه سريعا بعد أن لفت انتباه الجميع بخطبه وأحاديثه البارعة التي أوصلته إلى رئاسة حزب اليعاقبة عام 1709 باعتباره نصيرا للديمقراطية وعدوا للملكية التي سقطت سريعا عام 1792 وانتخب على إثرها روبسبير مندوبا لفرنسا في المؤتمر القومي الذي أخذ يدعو من خلاله إلى ضرورة إعدام الملك لويس السادس عشر وعائلته، يناقش بحماس تنفيذ حكم الإعدام بعدما كان ينادي ولسنوات بإلغائه وهو يقول « يجب على لويس أن يموت، لأنّ الأمة يجب أن تعيش» حتى تحقق له مراده عام 1793 وانتخب روبسبير عضوا في الهيئة التنفيذية العليا ولجنة الأمن العام، وبدأ يسيطر حينئذ على مقاليد السلطة، وبدأ مشواره الدموي بالتخلص من منافسيه وعلى رأسهم عدد كبير من زعماء الثورة الفرنسية مثل «دانتون» و»هيبير» و»ديمولان» ليصبح بذلك الزعيم الأوحد في فرنسا ويرتكب من الفضائح والأهوال مما لن يمحوه التاريخ أبدا حتى أصبحت المقصلة أداته المفضلة في إقامة مجتمع الإخاء والمساواة والعدل. يروي المؤرخ ه .ج. ويلز تلك الأحداث التي جاءت بروبسبير إلى الحكم بالقول «....كان الملك لويس السادس عشر يفتقر إلى القوة لإدارة الحكم إلى جانب فقدانه القدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، حتى استيقظ صبيحة الرابع عشر من يوليو 1789 على هدير أصوات الشعب الذي اجتاح الشوارع، إذ تم تحطيم سجن الباستيل الشهير، حينها كان اسم روبسبير قد بدأ يبرز بين الحشود، خاصة بعدما انطلق يحدث مندوب الملك قائلا: «قل لسيدك الملك إننا هنا بأمر من الشعب ولن نتزحزح من أماكننا إلا على أسنة الرماح..». وباستباق الأحداث (يضيف الكاتب) أخذ الثوار يحملون روبسبير على أكتافهم وهو يصرخ مدويا ضد الظلم والطغيان والاستبداد، يرفض بصرخاته الثائرة محاولات ملكيات أوروبا إنقاذ الملك لويس السادس عشر وزوجته، إذ تم القبض عليهما وإعدامهما سريعا أمام أعين روبسبير الذي أعلن مع رفاقه قيام الجمهورية الفرنسية سنة 1792 واستطاع سريعا السيطرة على المتطرفين من اليعاقبة، بعد أن أنشأ معهم حزب الجبل وأصبح من خلاله الحاكم الحقيقي لفرنساالجديدة، لقد نجح بجسمه النحيل والصغير أن يسيطر على الجماهير الثائرة بحسن إلقائه للشعارات، لقد كان بصدق خطيبا مفوها استطاع أن يجعل الثورة تحت سلطانه، وتحوْل سريعا إلى زعيم مُتسلط شديد التعصب، وبدأ مشواره نحو القتل والدماء باسم الثورة ومن أجلها..». ما أن جاء فجر الرابع عشر من يوليو 1789 حتى بدأت معه أولى حلقات المسلسل المُخيف من القتل الجماعي الذي أخذ روبسبير يلعب دور البطولة فيه، بعد أن اخترع الطبيب (جيلوتين) آلة القتل التي عرفت باسمه (المقصلة)، وأخذ يحصد من خلالها أرواح العديد من الأبرياء تحت شعار الثورة التي أنشأ لها محكمة خاصة ( محكمة الثورة) وابتدأ معها سيلا من الذبح والتقتيل والدماء، فأعدم الملك لويس السادس عشر وزوجته ومعظم خصومه السياسيين وكل من كفر أو أنكر الكائن الأعلى الذي اتخذه روبسبير إلها وربّا، وتسارعت حالة الفوضى بتسارع القتل الجماعي البربري وبات حكم الإرهاب هو السائد في الفترة الأخيرة من الثورة الفرنسية التي غاب فيها المنطق وتولى روبسبير فيها زمام الأمور حتى عدّ بحق من أشهر السفاحين الذين أنجبتهم البشرية، وانطلق لتحقيق أهدافه البربرية بأوامره للجيش الثوري للغوص سريعا في القرى والمدن الفرنسية الصغيرة، مرفوقا بمقصلته المتحركة لتصفية معارضيه وخصومه وأعداء الثورة، حتى توسع في نطاق القتل لتضم قائمته من أسماهم بالثوريين الزائفين، ووصلت مقصلته إلى رقاب المعتدلين من زعماء الثورة أنفسهم.. مع مرور الوقت بدأت مقصلة روبسبير تزداد دموية من خلال محكمة الثورة التي بدأت تعمل بجد ونشاط في ظلّ سهولة مهمتها بعد صدور قانون المشبوهين أو المشتبه بهم سبتمبر 1793 الذي سمح باعتقال وسجن أي شخص دونما حاجة إلى تقديم الدليل على إدانته، فازدحمت السجون بالرجال والنساء في سيل لا ينقطع باتجاه المقصلة التي بدأت تحصد رؤوسهم رويدا رويدا حتى بلغت رسميا ستة عشر ألف قتيل خلال تسعة أشهر من الإرهاب الدموي، وكان من أشهر الضحايا الملكة ماري انطوانيت باعتبارها العدوة الأولى للثورة والعديد من رجالات السياسة والحكم بتهم متعددة كالخيانة والتعرض للوطنية بالسب والقذف وبث روح اليأس لدى المواطنين، وترويج الأخبار الكاذبة وانتهاك الأخلاقيات وإفساد الضمير العام وتعكير البراءة والطهارة الثورية، كل ذلك في ظلّ خرجاته الدائمة وتعليقاته متباهيا ومتفاخرا بقوله «... إنني سأجعل خط الحدود بيني وبين أعداء فرنسا من حولنا نهرا من الدماء». شيئا فشيئا بدأت الممارسات الوحشية التي يرتكبها روبسبير تثير حنق الكثيرين داخل الدولة الفرنسية ورجالات الثورة حتى جاء الخطأ القاتل حينما أصدر قانونه الذي عرف بقانون بريريال في العاشر من يونيو 1794، والذي كان بمثابة السيف المسلط على رقاب أعضاء المؤتمر الوطني الفرنسي، فمثل هذا القانون كان يقضي من جهة بتعديل إجراءات المحكمة الثورية وتعجيلها داعيا جميع المواطنين إلى الوشاية بالخونة، ومن جهة ثانية يقضي بحرمان أعضاء المؤتمر الوطني من الحصانة في خطوة عدها الكثيرون تمهيدا للقبض عليهم وتحويلهم إلى المحاكمة بتهم ملفقة، وبدافع الخوف على أرواحهم قرر أعضاء المؤتمر الإطاحة بالطاغية روبسبير وأعوانه من خلال خطة محكمة التنفيذ تزعمها كل من (تاليان وباراس) تمثلت في القيام بحملة عسكرية انقلابية تقتحم معها مقر البلدية حيث يجتمع روبسبير ويلقي خطابه على أعوانه، وما هي إلا لحظات حتى اقتحمت قوة الثوار المبنى ونجحت رصاصات أحدهم في إصابة روبسبير في فكه الأيمن وتم أسره ومحاكمته بتهمة الخيانة العظمى، ليقتاد سريعا إلى المقصلة التي طالما استعملها لقطع روؤس معارضيه ويشرب من الكأس التي أذاقها لآلاف الفرنسيين التعساء صبيحة يوم السابع والعشرين من يوليوز 1794 على مرآى الجماهير التي اصطفت لرؤية السفاح وهو يساق إلى حتفه، حتى نزع الجلاد بعنف ضمادته التي ضمد بها فكه المُهشم وتنطلق منه صرخة مدوية من الألم قبل أن يُسكتها سقوط نصل المقصلة على عنقه ليفصل رأسه عن جسده ويصمت إلى الأبد، وتنتهي بذلك قصة السفاح روبسبير الذي تسلّق سريعا على أكتاف الثورة الفرنسية وأضحى كابوسا للإرهاب وحمى الإعدام في صفحات مثيرة من فترات التاريخ الفرنسي والثورة الفرنسية التي عادت سريعا إلى تكريس مبادئها في إقامة مجتمع الحرية والعدل والإخاء والمساواة التي افتقدتها الجماهير الفرنسية بعد ظلام ليل طويل. معادي أسعد صوالحة