انشغل عشاق كرة القدم هذه الأيام في أرجاء المعمور بتتبع تصفيات كأس العالم، في وقت تقع فيه تصفيات من نوع آخر في بقعة صغيرة أخرى من العالم، إنها تصفيات دموية وإبادة جماعية ضد شعب غزة في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ فشتان بين آهات المشجعين الذين تهتز مشاعرهم في مختلف البلدان على إيقاع أهداف كروية يسجلها لاعبوهم المفضلون، وتنحبس أنفاسهم مع كل فرصة ضائعة كادت تحصد أهدافا كفيلة بتأهيل فريقهم لتحقيق حلمه، وبين آهات أهل غزة التي تتعالى مع سقوط كل شهيد وأنفاسهم التي تنحبس مع دوي كل صاروخ أو قذيفة تحصد معها لا محالة أرواحا طاهرة جديدة لأحبائهم وذويهم. وبالرجوع إلى أجواء المونديال، نجد المشجعين تنتفخ أوداجهم غضبا عندما لا ينصف الحكم فريقهم الذي يساندونه ويشجعونه بكل وجدانهم ويصرخون ويحتجون على هذا الظلم الذي صورت عدسات الكاميرا تفاصيله من كل زوايا الملعب، تماما كما تنتفخ أوداج الفلسطينيين غضبا إثر ممارسات المحتل الظالمة من تهديم لبيوتهم وتقتيل لنسائهم وتشريد لأطفالهم، ترصدها في كل وقت وحين عدسات كاميرا الصحافيين الموجودين في عين المكان. كما تلتقي أساليب التعبير عن التضامن في كلتا الحالتين عبر كتابة مشجع المباريات الكروية، من جهة، عبارات داعمة لفريقه المفضل على صفحته الفايسبوكية تعبر عن مشاعره الجياشة تجاه ذلك الفريق، وتعبير المتتبع للشأن الفلسطيني، من جهة أخرى، عن تعاطفه مع سكان غزة عبر نشر عبارات تضامنية على صفحته الخاصة في الفايسبوك وصور تعبر عن عدم غياب أهل غزة عن باله وخاطره. وتكتظ برمجة رمضان التلفزية، التي يعود إليها المشجع الكروي بعد أن يفرغ من مشاهدة المباريات، بمسلسلات وبرامج وأفلام موسمية رمضانية تكاد لا تترك لمتتبعها الوفي المجال للتعبد في شهر العبادة، في حين لا يعطي القصف الذي يشنه المحتل المجال للمواطن الغزاوي ليضع برمجة خاصة لحياته الرمضانية التي سلبها الاحتلال، بأعماله الهمجية، خصوصيتها وحلاوتها وحرمه التمتع بهدوئها الروحي. عندما شارك منتخب عربي وحيد في المونديال، وهو المنتخب الجزائري، تناسلت التبريكات والتهاني على الفريق من كل البلاد العربية باعتباره يمثل بمشاركته تلك كل بلد عربي، ولاح في المشهد العام تضامن عربي كروي قل نظيره في قضايا أخرى أكثر أهمية. لكن ما إن بدأ القصف على غزة حتى خفتت هذه الأصوات وتلاشت فجأة مشاعر العروبة والوحدة تلك التي ما فتئت تتغنى بها في حدث كروي لا شك أنه لا يفوق القضية الفلسطينية أهمية؛ فبين مباريات كرة القدم، حدث السنة الرياضي، والحرب على غزة، كارثة السنة الإنسانية، لا بد من إعادة النظر في ضمائرنا التي أصبحت تتأثر بنتائج مباريات كرة القدم أكثر مما تتفاعل مع فظائع إنسانية يندى لها الجبين. بشرى لغزالي * * باحثة ومترجمة