التحديات التي تواجه الجمعيات القضائية المهنية في الحال والاستقبال سوف أحاول أن أحصر حديثي في موضوع الجمعيات المهنية للقضاة؛ أما الجمعيات المدنية، وبالنظر إلى أن لها تراكما وتجارب في ميدان عملها، فإن رصد التحديات التي واجهتها ومازالت تواجهها يتطلب دراسة أكبر من هذا المقام. ويمكن، في هذا الإطار، أن نجمل التحديات التي سوف تواجهها الجمعيات المهنية للقضاة في التحديات القانونية والداخلية: من الناحية القانونية: بعد المكسب الدستوري لسنة 2011 والذي اعترف للقضاة بحق تأسيس الجمعيات المهنية والانخراط في باقي الجمعيات، وبعد قيام القضاة بتفعيل هذا المقتضى وإنشاء جمعية مهنية مستقلة بعد شهر ونصف من إقرار الدستور، وبعد سنتين ونصف من ممارسة هذا الإطار المحدث (المقصود نادي قضاة المغرب) لعمله في إطار من الوضوح والصدح بالواقع كما هو دون تزييف أو زخرفة وحصول التدافع أحيانا بينه وبين السلطة التنفيذية في سبيل ذلك، بعد هذا كله جاءت مشاريع القانونين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة لتحد من هذه الحركية وتضع تقييدات على العمل الجمعوي للقضاة. ويتضح هذا أكثر في الصيغة الأولى لهذه المشاريع التي أصدرتها وزارة العدل، أي صيغة أكتوبر 2013، حيث تم تقييد الجمعيات المهنية للقضاة بمجموعة من القيود، منها ما يتعلق بالإنشاء ومنها ما يتعلق باستمرارها وكذا وسائل عملها، ونفس الأمر استمر مع نسختي شتنبر 2013 مع بعض التعديلات التي تهم الإنشاء والاستمرار. أما وسائل عمل الجمعيات فقد ظلت كما هي، مع أننا نرى أن ممارسة الحق الجمعوي للقضاة ورد في الدستور بشكل مطلق ودون شروط متعلقة بالتأسيس؛ والشرطان الوحيدان اللذان تحدث عنهما الدستور هما احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وهما شرطان يتعلقان بممارسة الجمعيات لعملها وليس بتأسيسها، لذلك نرى أن القانونين التنظيميين المشار إليهما أعلاه يجب ألا يتضمنا أية إشارة إلى هذا، وأن أي تنظيم له يجب أن يكون في القانون العادي، أي قانون الجمعيات، وهو المقتضى المنصوص عليه في الفقرة الثانية من الفصل 111 من الدستور التي نصت على أنه "يمكن للقضاة الانخراط في جمعيات أو إنشاء جمعيات مهنية، مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون"، أي القانون العادي، وليس التنظيمي، أي ظهير 1958 حاليا. وإذا رجعنا إلى مقتضيات المسودتين اللتين هما محل انتقاد كبير من طرف كافة الجمعيات المهنية القضائية بدون استثناء، حتى تلك التي شاركت في الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة (وأحيلكم هنا على البلاغ المشترك لهذه الجمعيات شهر نونبر 2013 )، فإننا سوف نجد أن هذه المشاريع تحاول أن تفرغ العمل الجمعوي من محتواه وتحوله إلى مجرد عمل ثقافي لا أقل ولا أكثر أو جمعيات صامتة كما عبر عن ذلك أحد قياديي جمعية نادي قضاة المغرب، وسوف نقوم بالتدليل على هذا الأمر بعدة مقتضيات من هذين المشروعين. من ذلك، مثلا، منع جميع وسائل الدفاع عن أهداف الجمعيات المهنية عن طريق الاحتجاج، وذلك باستعمال عبارات فضفاضة تتسع لاستيعاب حالات متعددة من الممارسة الجمعوية من قبيل الالتزام بالأخلاقيات القضائية وعدم عرقلة السير العادي للمحاكم واحترام مدونة السلوك، مع أن هذه الأخيرة، حسب المشروعين، سوف يتكلف بإعدادها المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو ما سوف يمثل فرض التزامات جديدة على القضاة خارجة عن القانون التنظيمي الذي تتولى المحكمة الدستورية مراقبته، إذ يمكن أن يتم خنق الحركة الجمعوية للقضاة بمقتضى مدونة السلوك هاته، وهي غير خاضعة للرقابة البرلمانية ولا للمحكمة الدستورية، وهو ما حصل في الجارة الجزائر، حيث تم إلجام حركية القضاة بمدونة أخلاقية تم وضعها خارج نطاق القانون المنظم لمهنتهم وأصبحت تتم إحالة كل مخالف لها على المجلس التأديبي . المثال الثاني يتعلق بحشر وزارة العدل نفسها في تأسيس العمل الجمعوي، ويتبن ذلك من خلال المادة 92 من المشروع التي نصت على أنه "يشعر رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بتأسيس كل جمعية مهنية للقضاة، السلطة الحكومية المكلفة بالعدل التي تتولى إشعار وزارة الداخلية والأمانة العامة للحكومة". أتساءل: لماذا كثرة هذه الوساطات (المجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزارتا العدل والداخلية والأمانة العامة للحكومة)؟ فنحن نرى أن الدستور أحال على القانون العادي، وبالتالي فلا داعي إلى هذه المسطرة من أساسه. ونحن نرى أن من يريد تأسيس جمعية من القضاة عليه أن يقوم بوضع ملفه لدى السلطات وفقا للمادة الخامسة من ظهير 1958، لأنه إن وقع تعسف من هذه السلطة فسوف يقوم الأعضاء المؤسسون بممارسة حقهم القانوني في الدفاع، بخلاف ما إذا تعلق الأمر بالمسطرة المنصوص عليها في مشروع القانون الأساسي للقضاة حيث مواجهة ُالمجلس أو رئيسه المنتدب في حال التعسف سوف تجعل المؤسسين مترددين لعلمهم بأن مصيرهم الوظيفي بيد المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئيسه. المثال الثالث يتعلق بالجهة المختصة قضائيا بالبت في بطلان الجمعية المهنية أو حلها، فإن المشروع قد أحال بشأنها على الغرفة الإدارية بمحكمة النقض؛ وهذا فيه، أولا، إهدار لحق التقاضي على درجتين الممنوح لجميع المواطنين، فضلا عن وضع السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض في حرج كبير مع القضاة، إذ كيف يمكن أن يطلب حل جمعية أو بطلانها من طرف غرفة إدارية في محكمة هو يرأسها؟ المثال الرابع هو المنصوص عليه في المادة 119 التي جاء فيها ما يلي: "يجب على الجمعيات المهنية للقضاة القائمة في تاريخ نشر هذا القانون التنظيمي بالجريدة الرسمية، العمل على ملاءمة وضعيتها مع أحكامه خلال أجل ستة (6) أشهر من تاريخ تنصيب أول مجلس أعلى للسلطة القضائية"، فهذه المادة تخرق أهم مبدإ قانوني وهو مبدأ عدم رجعية القوانين. المثال الخامس: إن ما يدل أكثر على أن المشروعين استهدفا تقييد العمل الجمعوي للقضاة، هو أننا لا نجد أي إشارة إلى حقوق هذه الجمعيات، إنْ من حيث النصُّ على ضرورة منح المسيرين لها التسهيلات اللازمة لأداء مهامهم كما هو جار به العمل في قطاعات الوظيفة العمومية أو من حيث الصلاحيات الرمزية التي أعطيت لها كحضور دورات المجلس كملاحظة عند البت في الوضعية الفردية للقضاة أو غير ذلك. هذه بعض الأمثلة التي سقناها في محاولة لحصر العمل الجمعوي للقضاة، لكن أؤكد أن الخطر الكبير الذي يتهدد الكيانات القضائية هو المفهوم الواسع لواجب التحفظ وتعمد عدم تحديده، إذ يتم اللجوء إلى هذا المفهوم كلما تم الاحتياج إليه، وفي كثير من الأحيان يتم اللجوء إليه لضرب استقلالية القضاء والقاضي والحد منها، وهذا فيه خطر على المجتمع أولا وليس على القاضي فقط. وفي هذا الإطار، أقوم بسرد بعض الأمثلة من إحدى الدول العربية التي تم فيها اللجوء إلى مفهوم واجب التحفظ للحد من حرية القضاة، وهكذا تم في لبنان اعتبار أن واجب التحفظ يفرض على القاضي الامتناع عن نشر المقالات وعقد المؤتمرات الصحفية أو انتقاد السلطة التنفيذية أو أعمال المجلس الأعلى للقضاء وكذا رد القضاة على المواضيع التي تثار في الإعلام حول القضاء. ونشير إلى أن هذا المفهوم "الشبح" واجه، كذلك، النقابات والجمعيات القضائية في أوربا في المراحل الأولى لتأسيسها وناضلوا من أجل التخفيف من حدته ووضع ضوابط له، وهكذا وصل الفكر الحقوقي القضائي هناك حول موضوع واجب التحفظ إلى مبدأين أساسين، هما: أولا، إن سماح المشرع بتأسيس نقابات وجمعيات قضائية إنما هو تقنية منه للتخفيف من حدة واجب التحفظ الذي لو تم تفسيره بشكل حرفي وظاهري فقط سوف لن يبقي ولن يذر من حقوق القضاة؛ ومن ثمة تم التوصل، ثانيا، إلى أن واجب التحفظ يلزم القاضي ولا يلزم الجمعيات المهنية أو النقابية ككيانات معنوية، وقد سعى بعض البرلمانيين الفرنسيين إلى اقتراح قانون سنة 1982 يلزم الجمعيات والنقابات القضائية في فرنسا بواجب التحفظ الذي يلتزم به القضاة، إلا أن المعارضة التي أبدتها النقابات القضائية والمجتمع الحقوقي الفرنسي حال دون مرور هذا القانون. وأحيلكم هنا، للمزيد من التفاصيل، على كتاب Jean-Luc Bodiguelالذي يحمل عنوان: Les magistrats, un corps sans âme. PUF 1991 التحدي الداخلي الذي يتعلق بالجمعيات المهنية هو الذي يقع في الكثير من التنظيمات النقابية والجمعوية الآن، وهو الانقسام الداخلي والصراع حول الزعامات، إما بفعل ذاتي أو خارجي من خلال الاختراق عن طريق زرع بعض القيادات الموالية لجهة معنية والتي تضمن استمرار جمعية مسألة، وقد جُرب هذا الحل مع أحد التكتلات في مصر إبان صراعها مع السلطة، حيث كانت تظهر دائما تيارات داخل الجمعية نفسها توقع العرائض أو تستنكر، في وسائل الإعلام، ما تقوم به الأجهزة التمثيلية للجمعية، وذلك قصد إعطاء صورة على أن قادة هذه الجمعية أو النقابة تسير ضد رغبة القضاة الأعضاء. فهذا الخطر الداخلي لا يقل أهمية عن التحدي القانوني إن لم يكن أقوى منه، لذلك فإن المعول عليه في هذا الإطار هو وعي القضاة المنخرطين في التنظيمات الجمعوية بأهمية هذا العنصر ومجابهته بالتضامن واختيار العناصر المعروفة بمواقفها سلفا في استحقاقاتها الانتخابية. عبد اللطيف الشنتوف* * رئيس المرصد الوطني لاستقلال السلطة القضائية