الطرق المؤدية إلى المطارات متشابهة, شوارع بلا أرصفة ولا مارة تأخذك في رحلة طويلة إما تستقبلك أو تودعك, وبين جدلية الحضور و الغياب, الذهاب والإياب تتوه أحاسيسك بين من تركتهم وبين من تمضي إليهم, إما تترك شيئا ما خلفك أو تبحث عنه أمامك. إحساس مبهم يعتريني دائما داخل أي مطار أمُرّ به, شعور أعجز عن وصفه..كالغربة, كالحنين, كالشوق, كالوحدة, كنظرة غريب وكحب مفاجئ. قهوة المطارات مُرّة مهما أغرقت بداخلها قطع السكر, مطاعمها بلا طعم, وكراسيها باردة وموحشة, حتى قاعات الانتظار المزينة والمكيفة, وأروقة السوق الحرة المرتبة والمغرية تبعث بداخلي ذلك الإحساس الذي لم أستطع ترجمته.ربما لذلك أحب مغادرة المطارات بسرعة, لأنني أشعر بداخلها بالاختناق, بمجرد أن ألقي بقدمي خارجها, أشعر بالحياة تضمني من جديد, خصوصا إذا وطأت أرض الوطن, أحس بالعودة لشيء ما أتركه دائما خلفي, يظل يناديني إلى أن أستجيب. لكن أول صدمة يتعرض لها أي زائر يقوده قدره إلى مطار محمد الخامس متجها نحو الدارالبيضاء هو تلك الرائحة التي تستقبله بها المدينة الشهيرة «كازابلانكا». يقول محمود درويش: «المدن رائحة:عكا رائحة اليود البحري والبهارات حيفا رائحة الصنوبر والشراشف, موسكو رائحة الفودكا على الثلج...باريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة...الرباط رائحة الحناء و البخور والعسل. وكل مدينة لا تُعرَف من رائحتها لا يُعوّل على ذكراها.» وذكرى الدارالبيضاء رائحة تلك المزبلة المَعْلمة التي تستقبل بروائحها النتنة كل زائر وتودع كل مغادر. رائحة تزكم أنفك وتصيبك بالغثيان وتخرجك عن طورك, فتشتم الطائرة والمطار والسائق والحقيبة, تشتم الوطن والمدينة والعامل والعمدة, تشتم عَبَدة الكراسي الذين تعاقبوا منذ سنين على تحمل مسؤوليات المدينة ولم تزعجهم يوما رائحة تلك المزبلة التاريخية, ولم يضايقهم منظرها المخزي وتواجدها المشبوه قرب مطار. حقّا المدن روائح, ورائحة البيضاء مزبلتها التي يرف حولها الذباب وتحيط بها الكلاب الضالة ويقتات منها المتشردون و تحلق فوقها طيور وسخة كالجرذان..إنها ليست ماض ولّى بل حاضر نستنشقه كل موعد سفر, جيئة وذهابا دون أن يكترث لحالنا أحد أو يعترف أحدهم بتقصيره و يضع فضلات المدينة ضمن أولى اهتماماته, لا أحد معني بذلك العطر الكريه, ولا بتلك المساحة الكبيرة التي تحتلها القاذورات. كأنّ لا أحد يراها, كأنّ لمسؤولينا مطارات أخرى يسافرون عبرها, وطرقا خاصة وممرات وسراديب وخنادق سرية يمرون منها,كأن أجمل وأرق وأحلى ما تستقبل به سائحا أو مواطنا هو مزبلة. رائحة الوطن ليست كريهة,إنها رائحة الكسكس يوم الجمعة, رائحة الحساء شهر الصيام, رائحة الأعراس, رائحة الأعياد, رائحة الرضّع, رائحة الحناء والزيت والنعناع, رائحة القهوة عند العصر, رائحة الربيع وعباد الشمس,رائحة الزرع والنخل والسمك, رائحة الشاي والفل والزهر, رائحة البحر والسهل والرمل والجبل..رائحة تسكننا, نحملها داخلنا بحب وألم, تعذبنا شوقا وحنينا, تثيرنا وتبكينا, تستدرجنا مسحورين وتجبرنا على العودة. رائحة تثير الحواس وتلهب الشوق. رائحة الوطن بأهله و هوائه و ترابه, هو ذلك الشيء الذي أتركه دائما خلفي, يظل يناديني إلى أن أعود.. هي الرائحة التي أحلم أن تستقبلني وتستقبل كل زائر أو عائد, رائحة المغرب الحقيقية, والتي حاشا أن تكون رائحة مزبلة.