لا حواجز إسمنتية، ولا بنايات شاهقة، لا أرصفة، لا شيء غير بساط رملي، والقليل من النباتات الشوكية «المتناثرة» التي مازالت تحافظ على شيء من نضارتها، لأنها نباتات صحراوية، ومياه متلاطمة، كما يخيل إليك، أو كما التقطته عيناك، وكلما اقتربت لتروي عطشك، أو فضولك، مما رأت عيناك، لا تجد إلا الرمال، رمال تحيلك على أمواج أخرى... فالمياه ليست سوى سراب، ناتج عن الارتفاع المفرط في درجة الحرارة، رغم أن الفصل مازال ربيعا. رغم أنها أرض «قاحلة جوفاء»، كما يمكن أن يتبين لأي عابر، إن هو طال نفسه للوصول إلى نقطة امحاميد الغزلان، وهي آخر جماعة قروية مغربية، في الجنوب الشرقي، قبل الوصول إلى الحدود المغربية الجزائرية، إلا أن سكانها يرتبطون بها كارتباط الرضيع بأمه، وربما أكثر بكثير، حتى وإن غادروها يوما فإن الحنين يغالبهم في لحظات ضعف للعودة إليها على جناح السرعة، يقول الشاب حمادي (مجاز في الحقوق قضى عدة سنوات في الجامعة بمراكش): «مهما كان المستوى الثقافي لأي واحد منا، إلا أن الصحراء جزء لا يتجزأ من ذاته، وهذا الجزء لا يمكن أن نعيش بعيدين عنه مدة طويلة، ربما يكتب لنا العيش بعيدا عن امحاميد الغزلان، لكن لا بد من العودة إلى الأصل، وفي مدة وجيزة». ويمثل شباب امحاميد الغزلان استثناء، فرغم قساوة الطبيعة، التي كثيرا ما تخذل الفلاحين، وتخذل حتى الشباب لانعدام فرص الشغل بالمنطقة، حسب عدد من هؤلاء، إلا أن سرا عصيا على الكشف يحكم علاقة تؤلف قلوب أبناء المنطقة لحب «غريزي» لموطنهم، يقول أحد الأطفال، بلكنة صحراوية، وهو في لحظة حميمية، يداعب فيها الرمال، وكأنه يستنشق حصته منها، أو أنه يعلن في رمزية علاقة الود الطبيعي التي تجمع الصحراء بأبناء سيظلون أوفياء لها حتى آخر لحظة في حياتهم: «نبْغي الصحْراء مْليحْ، وما نٌي نتْصور نْعيش في مكان ما فيه الرمْلة والكيْلة، بمعنى الشمس». وتبعد امحاميد الغزلان ب 98 كيلومترا عن عمالة زاكورة، وتضم ساكنة تقدر ب 9000 نسمة، في آخر إحصائيات عرفتها المنطقة، أكثر من نصفهم رحل، حسب أحد أبناء المنطقة، ويعتمد عدد مهم من السكان على السياحة كمورد للعيش، على اعتبار المنطقة سياحية بامتياز، يقول نعماني لحبيب حبوها، مدير أحد الفنادق بالمنطقة: «السياحة جيدة، لأن لمحاميد نقطة سياحية مهمة، خاصة بالنسبة إلى عشاق الصحراء، والحمامات الشمسية»، وتعاني المنطقة نقصا حادا في البنيات التحتية، إذ لا وجود لأي مرافق قد يحتاجها السائح باستثناء بعض المقاهي«المتواضعة»، وبعض الفنادق التي حاول أصحابها إصباغها باللون التقليدي للمنطقة، سواء تعلق الأمر بمواد البناء، اعتماد التراب فقط للبناء، وهو يقاوم الحرارة، ولا تتوفر فيه «الرملة»، أو الشكل، ومن أرباب الفنادق من جعل الخيمة عنصرا حاضرا وبقوة داخل فندقه، حتى يجعل السائح يجرب حياة الرحل بشكل ملموس. ويلتمس أصحاب الفنادق البساطة في تأثيث الغرف، لأن السائح، خاصة الأجنبي، يبحث عن البساطة، يقول لحبيب: «كل شيء بسيط هنا، لا نريد أن نغير من الواقع أي شيء، لأن البساطة هي ما يبحث عنه السائح، ونحن لم نخرج كثيرا عن سياق البناء المعماري للمنطقة ولا حتى الأثاث، فالزربية الصحراوية حاضرة، وكل مقومات الحياة الصحراوية حاضرة أيضا، حتى نكون في مستوى ما يتطلع إليه السائح»، كما أن ثمن المبيت لليلة واحدة، يضيف نفس المصدر: «هو في متناول السائح، كل حسب مقدوره الخاص، هناك 140درهما، وهناك700 درهم». وأكد عدد من أرباب الفنادق أن نسبة السياح تراجعت أخيرا، خاصة هذه السنة، بسبب الأزمة المالية العالمية، في حين أكد آخرون وجود انتعاش، وهو مسجل منذ التسعينيات، وأكد المصدر نفسه أن الفترة الذهبية الحقيقية للسياحة في المنطقة كانت ما قبل 1975، أو ما يعرف بسنوات”الهيبي”، وهم نوع من السياح، كانت لهم هيأة خاصة وطقوس معينة، وعاشت السياحة بالمنطقة أزمة حقيقية، يضيف نفس المصدر، في الفترة ما بين 1978و1990، عندما أغلقت طريق المحاميد(بني علي)، وهي الطريق التي كان يسلكها السياح للدخول إلى المنطقة، عبر الجزائر. ويتوافد أزيد من 3000 سائح على المنطقة سنويا، حسب مصدر مطلع، جلهم من أوروبا، فرنسا، إسبانيا، ألمانيا، سويسرا، وهناك نسبة أيضا من أمريكا، غير أن سيادة الفوضى في القطاع تخلق عدة مشاكل، نظرا لوجود مرشدين بدون رخص، وغياب البنيات التحتية، خاصة انعدام الطرق، يجعل الوصول إلى المنطقة أمرا صعبا، لا يخلو من مخاطر، لأن الطريق الرئيسية الوحيدة، الرابطة بين زاكورة وامحاميد الغزلان غير معبدة بما فيه الكفاية، وهي لا تسمح بمرور وسائل النقل في اتجاهين مختلفين، إلا بمشقة النفس، يقول صاحب أحد الفنادق، فضل عدم الكشف عن اسمه: «نحن نقوم بأنفسنا بتنظيف الجماعة، لأننا نحن أول المتضررين، يجب أن تساعدنا السلطات المحلية بمد الطرق وإصلاحها، داخل الجماعة القروية، والطرق المؤدية إليها، عبر زاكورة، حتى نساهم معا في الارتقاء بالسياحة في المنطقة، لأنها أهم مورد بالنسبة إلى السكان، والسلطات على علم تام بهذا، لذلك يجب أن تمد يد العون لانتشال الساكنة من الفقر». وغير بعيد عن قرية امحاميد الغزلان، وتحديدا، ثلاثة كيلومترات غربا، يوجد القصر، قصر امحاميد الغزلان الحقيقي، قرية، على شكل قلعة، آهلة بالسكان، تأسرك أسوارها المتآكلة، الشاهدة على أحداث تاريخية شيقة. القلعة، حسب أحد أبناء المنطقة، كان يسكنها اليهود، خاصة من جهة الجنوب، ومدخل القصر، في اتجاه القشلة، مقر جماعة المحاميد، كانت عبارة عن سوق «سويكة» باللهجة الصحراوية، يزاول به الوافدون من موريتانيا، ومناطق أخرى خارج الحدود، التجارة. القلعة أيضا مبنية بمادة «التراب»، على غرار كل البنايات تقريبا بالمنطقة، ابتداء من أكدز، جماعة قروية قبل زاكورة بحوالي 80 كيلومترا، يميل لونه «التراب» إلى الأحمر، به ثقوب كبيرة، تحسبها ناتجة عن التغيرات الجوية، الارتفاع المفرط في درجة الحرارة، غير أنها ثقوب متعمدة للتهوية ولأغراض أمنية تحسبا لهجوم عناصر أجنبية. أزقة ضيقة، ودور تحسبها قد تنهار في أية لحظة، وهو إحساس يجعلك تتنقل بين الأزقة بحذر، رغم أن نساء ملثمات يطالعنك من الأسطح، غير آبهات، وكأنهن واثقات بما صنعته سواعد رجالات امحاميد الغزلان. بساطة السكان، واندماجهم العفوي مع زوار القصر، في إطار زيارة لجمعية «أولاد يوسف للثقافة والبيئة والتنمية الاجتماعية»، جعلتهم ينقلون، واعتباطيا، مشاكلهم بخصوص انعدام المرافق الاجتماعية، أو تواضع ما تقدمه من خدمات، أو عامل بعد بعضها الآخر، إذ يضطر الأطفال إلى التنقل يوميا، ولأربع مرات إلى«القشلة»، وعامل البعد هو ما يزيد، حسب حليمة، بين سكان قصر امحاميد الغزلان، من انقطاع الفتيات عن الدراسة والهدر المدرسي، رغم وجود «دار الطالبة»، ويلححن على الانقطاع، لأنهن لا يطقن الاستقرار بها، حسب حليمة، التي كانت تتحدث إلى «المساء» وهي تتأبط كيسا بلاستيكيا قد ضمته إلى حضنها، وكأنها تضم أحد أطفالها، تقول وقد توزع إحساسها ما بين الفرح والخيبة: «احنا كانقراو دابة الحمد لله، ولينا تنعرفوا بزاف ديال الحوايج، ولكن راه بغينا حتى وليداتنا يقراو ونفرحوا حتى حنا بيهم» وأضافت، في محاولة منها للتذكير من جديد، لعل الذكرى تنفع المومنين: «احنا ما في حالناش، القشلة بعيدة منا، أحتى المستشفى ديالها ما فيها والو، إلى كان شي واحد مريض بزاف كيموت مسكين في الطريق قبل ما يوصل زاكورة، على قبل هنا ما كين والو... خاصنا كلشي».