عندما قرأت خبر اعتزام جمعية الريف لحقوق الإنسان نقل أنشطتها من الناظور إلى مدريد، تأسفت كثيرا وتمنيت أن يكون هذا القرار مجرد تهديد يلوح به أعضاء الجمعية لكي يجبروا السلطات المغربية على إرخاء قبضتها على أنشطتهم داخل مدن الريف. وعندما علمت بأن جمعية الريف لحقوق الإنسان تعتزم عقد ندوة في مليلية بدعوة من جهات إعلامية وحقوقية إسبانية للحديث عن اعتقال رئيسها شكيب الخياري، ولشرح الأسباب التي جعلت هذه الجمعية تختار اللجوء إلى مدريد بدل البقاء في الناظور، شعرت بالإهانة فعلا، إذ كيف يقبل أعضاء هذه الجمعية بتنظيم ندوة صحفية في مدينة مغربية محتلة للحديث عن مشاكلهم مع السلطات المغربية. والحال أن النشاط الوحيد الذي يحق للجمعية أن تنظمه في مليلية هو وقفة احتجاجية للمطالبة بعودة المدينةالمحتلة إلى السيادة المغربية، لا الاعتراف بهذا الاحتلال واللجوء إليه كورقة من أوراق الضغط على السلطات المغربية. لنتفق أولا حول مسألة جوهرية، وهي أن جمعية الريف لحقوق الإنسان، مثلها مثل كل الجمعيات الحقوقية الأخرى، لديها الحق في النضال بكل الأشكال القانونية لتوسيع هامش الحريات في المغرب، وفضح كل من يقف وراء خرق حقوق الإنسان كيفما كانت بساطتها. فهذه مهمتها الإنسانية الأساسية وهذا واجبها الوطني. هذه الجمعيات الحقوقية والثقافية يجب أن تكون ارتباطاتها واضحة مع الخارج. فهناك جمعيات تناضل لتوسيع هامش الحريات داخل المغرب، وتتصارع مع السلطات داخل المغرب، وتؤدي الثمن من حريتها وسلامتها الجسدية داخل المغرب. لكنها لا تهدد أبدا باللجوء إلى الجيران للاستعانة بإعلامهم وجمعياتهم ومؤسساتهم السياسية في معركتها الحقوقية. ظاهرة استقواء مغاربة بالأجنبي على بلدهم ليست ظاهرة جديدة، بل هي قديمة قدم المغرب نفسه. وفي كل مرة أظهرت الأحداث أن «المعارضة بالوكالة» التي قام بها لاجئون في أوربا وبعض دول الجوار، انتهت بالفشل. فالدفاع عن المواقف والأفكار والثبات على القناعات داخل هذا الخندق المشترك الذي يجمعنا كمغاربة، هو الضمانة الوحيدة لتغيير الأوضاع السياسية والحقوقية نحو الأحسن. الجميع يعرف اليوم حجم الحرب الإعلامية التي تخوضها أطراف في الحكومة والمعارضة الإسبانية ضد المغرب، خصوصا بعد حصوله على وضع الشراكة المتقدمة مع الاتحاد الأوربي. فهذا الوضع الذي سيكون اقتصاديا في صالح المغرب، خلق متاعب للجيران الإسبان، خصوصا بالنسبة إلى فلاحيهم بإقليم الأندلس. ولذلك تحركت الآلة الإعلامية والسياسية والحقوقية لضرب المغرب في المكان الذي يؤلمه أكثر: ملف حقوق الإنسان والمخدرات. ومن هنا نفهم السبب الحقيقي وراء تسريب الصحافي الإسباني «إغناسيو سيمبريرو» لتقرير لجنة الاتحاد الأوربي في الصحراء قبل إصدار النسخة النهائية، ونفهم تسليط الضوء الإعلامي في إسبانيا على حملة الداخلية على المخدرات واتهام شخصيات نافذة في الدولة بالوقوف وراء تهريب المخدرات. وليس هذا فحسب، بل ذهاب نائب برلماني إسباني إلى اتهام العائلة الملكية بالوقوف وراء تجارة المخدرات. وعندما سألناه هل يملك أدلة على هذه الاتهامات الخطيرة أجاب ببرودة دم بأنه لا يملك أي دليل، وأن كل ما يملكه بهذا الصدد هو تصريحات بعض الناشطين في جمعيات المجتمع المدني التي تناقلتها الصحافة المحلية. وليس طبعا مصادفة أن يتزامن كل ذلك مع رسالة رئيس ما يسمى بالكونغريس العالمي الأمازيغي للاتحاد الأوربي يطالبه فيها بالتراجع عن إعطاء المغرب وضعا متقدما مع الاتحاد لأن المغرب بلد عنصري. وكأن السيد رشيد رخا لم يقرأ عن نسبة العنصرية في إسبانيا وكيف أنها زادت مؤخرا خصوصا تجاه المغاربة. وكأن المغرب في نظره محكوم بنظام «الأبارتايد» العنصري الذي يمنع وصول الشخصيات من عرق غير العرق الحاكم إلى مناصب المسؤولية. وكأنه يجهل أن الجيش والحكومة والبرلمان والتلفزيون المغربي مليء بالمغاربة من أصول أمازيغية. وطبعا، المغرب ليس واحة ديمقراطية، كلنا يعرف ذلك. والتجاوزات على مستوى ملف حقوق الإنسان تحدث كل يوم. وقد كنا أول ضحاياها عندما حكم علينا القضاء بغرامة أسطورية قدرها 600 مليون سنتيم، ورفض مدير سابريس، السيد محمد برادة، الذي لا يخجل من رفع مشروع «جريدة لكل مواطن»، أن يسلمنا مبلغ 560 مليون سنتيم التي لدينا في ذمته كحقوق مالية عن آخر شهر «وزعنا» فيه قبل أن نغادره إلى شركة «الوسيط» للتوزيع. هل هناك شركة في العالم يمكن أن يؤخذ منها ظلما وعدوانا مليار سنتيم ومع ذلك تبقى على قيد الوجود. «المساء» استطاعت أن تحقق هذه المعجزة بفضل قرائها الذين تكتلوا للدفاع عنها ووقفوا كرجل واحد لمنع إفلاسها وتشريد 150 من صحافييها ومستخدميها. ولذلك فعندما نتحدث عن التجاوزات الحقوقية والظلم القضائي فإننا نعرف عماذا نتحدث بالضبط. «ماشي غير معاودين لينا» كما هو حال البعض. لكن ورغم محاولات إعدام الجريدة، ورغم خنقها ماليا بتجميد حسابها وحسابي البنكي إلى اليوم، فإننا لم نقبل للحظة واحدة تحويل معركتنا مع قضاء فاسد وغير مستقل إلى معركة ضد مصالح المغرب الحيوية. لقد رفضت شخصيا عشرات الدعوات التي جاءتني من مختلف العواصم الأوربية من جمعيات ومؤسسات حقوقية، بعضها تعاطف معنا عن حسن نية دفاعا عن مبادئ حرية التعبير الكونية التي يؤمنون ويدافعون عنها فعلا، وبعضها الآخر أراد أن يستغل مشكلتنا مع القضاء المغربي لكي يضيف مزيدا من السواد على ملف المغرب أمام الاتحاد الأوربي والدول المانحة التي تربط منحها ومساعداتها المالية للدول بمدى احترام هذه الأخيرة لحقوق الإنسان. لذلك قررنا أن تبقى معركتنا مع الظلم القضائي فوق حلبة الوطن. «ضربة فينا وضربة فيهم حتى يحن الله». ونحن اليوم نشعر بالفخر لأن الذين دافعوا عن هذه الجريدة، بالإضافة إلى الجمعيات والمؤسسات الحقوقية الوطنية، هم قراؤها أساسا. وقد كنا مندهشين ونحن نراهم يخرجون في وقفات احتجاجية أمام المحاكم والساحات لكي يبلغوا الدولة والحكومة احتجاجهم على قرار الإعدام الجائر الذي أصدره القضاء في حق جريدتهم الأولى. هناك نوعان من المعارك النضالية لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وتوسيع هامش الحريات في المغرب. معركة يخوضها أبناء المغاربة الشرفاء داخل وطنهم من أجل وطنهم، وهذه المعركة تتطلب منا جميعا الانخراط فيها بغض النظر عن اختلافاتنا الفكرية والثقافية. ومعركة يخوضها مغاربة لنفس الأهداف، لكن لصالح أطراف خارجية تستعملها لمحاربة المغرب في المحافل الدولية وإحراجه أمام الاتحاد الأوربي والدول المانحة، ليس حبا في تمريغ سمعة المغرب في الوحل من أجل الاستمتاع بذلك، وإنما تقوم بهذه الحرب المنظمة دفاعا عن مصالحها الاقتصادية العليا. نحن مع النضال داخل المغرب من أجل الحقوق الاجتماعية والثقافية، مع استعمال جميع الوسائل القانونية للدفاع عن حرية التعبير والفكر. مع المقاومة إلى آخر نفس من أجل الكرامة والحق في المواطنة، والمحاكمة العادلة لكل من تعتقلهم الدولة بتهمة تسفيه جهودها. لكن نحن أيضا ضد تفشي ثقافة العملاء وخدام المصالح الأجنبية الذين يريدون تقديم أنفسهم كمناضلين يخدمون مصلحة الوطن، فيما هم يخدمون مصالح الجيران. خلال آخر محاضرة ألقيتها في جامعة «خيطافي» بمدريد حول «الهجرة وحقوق الإنسان بين المغرب وإسبانيا»، سألتني إحدى الطالبات الإسبانيات مستغربة كيف أدافع عن المغرب أمامهم، في الوقت الذي كنت فيه مجبرا بسبب البطالة والظلم الاجتماعي على مغادرته سنة 1997 والانتقال إلى إسبانيا للعيش فيها مهاجرا سريا. فقلت لها إنني لست من هواة طعن الوطن من الظهر. ودعوتها إلى قراءة ما أكتبه داخل بلادي كل يوم. فأنا لست محتاجا إلى «الهروب» خارج المغرب لكي أنتقد أوضاعه. بل إنني أصنع ذلك فقط عندما أكون داخله وبوجه مكشوف. أما عندما أغادره إلى بلاد أخرى وأكون مدعوا إلى الحديث حول المغرب، خصوصا إذا كان المضيفون ينتظرون أي كلمة صغيرة ضده لكي تحولها صحافتهم إلى سوط لجلده، فإنني أمسك لساني عن انتقاد بلادي. لأن الشجاعة ليست هي الاستمتاع بجلد الوطن أمام أنظار الجيران، وإنما جلد الفاسدين واللصوص وأعداء الوطن عندما نكون داخله، والاستعداد دائما لدفع ثمن ذلك دون الاستغاثة بالجيران أو الاستقواء بهم أو الهروب إلى أحضانهم عندما يشتد وطيس المعركة. ودائما عندما أرى أمثال هؤلاء «اللاجئين الحقوقيين الجدد» يغادرون السفينة وينساقون مع التيار الذي يجرفهم نحو مصالحه الخاصة، أستحضر قول الشاعر عندما أنشد بحرقة «بلادي وإن جارت علي عزيزة، وقومي وإن ضنوا علي كرام».