كيف تلقى رئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران تقرير المجلس الأعلى للحسابات، بكل تلك الاختلالات التي كشف عنها قضاة إدريس جطو؟ إنه السؤال الكبير الذي يتداوله اليوم كل المتتبعين، من رجال سياسة واقتصاد، وكذا من عامة الناس، الذين اطلعوا على تفاصيل التفاصيل المتعلقة بكيفية تدبير المالية العامة في عدد من الإدارات والمؤسسات. السؤال نفسه يطرح حول وزير العدل الذي ينتظر منه أن يحرك المسطرة القضائية بشأن الملفات التي تحتاج إلى ذلك بعد أن أنهى ادريس جطو عمله، وقال للمغاربة: ها هي ذي أموالكم العمومية كيف تصرف، وكيف يتم تدبيرها، بل وكيف يتم تبذيرها أيضا هنا وهناك. لكن، هل تتوفر لدى السيد الرميد الشجاعة الأدبية والسياسية لكي يعارض رئيسه في الحكومة الذي سبق له أن قال من أعلى منصة البرلمان، وللمكان هنا رمزيته: «عفا الله عما سلف»، حينما كان يفتح سيرة المختلسين، وأولئك الذين نهبوا أموال عدد من المؤسسات. ومن يومها، فهم المغاربة أنه يمكن لمن وجد الطريق سالكا لكي ينهب أو يختلس، أن يفعل ذلك مادام الرئيس يقول «عفا الله عما سلف». اليوم، وبعد أن كشف المجلس الأعلى للحسابات عن سلسلة جديدة من الاختلالات، لا تجزعوا ولا يصيبنَّكم الهلع مما حدث؛ فالأمر في البداية والنهاية مجرد وصلة من وصلات الديمقراطية المغربية التي تراهن دوما على الواجهة، في حين أن عمق الأشياء يظل مؤجلا إلى حين. لا تخافوا ولا تأخذنّكم رهبة من تقارير جطو.. إنها شبيهة بفقاعات الصابون، إنها شبيهة بما ظل يردده سياسيونا في الأغلبية وفي المعارضة من أننا نبني ديمقراطيتنا على مهل، ديمقراطية تشتغل بمجالس لنواب ومستشارين يمكن أن يختلفوا ويتدافعوا في كل شيء، قبل أن يجتمعوا حول قضاياهم المصيرية التي تعني الرفع من تعويضاتهم وحماية تقاعدهم المريح من كل مساس بها. تأملوا تركيبة هذه الحكومة لتفهموا كيف أن تقارير جطو ستجد لها، بعد أيام، مكانا في الرفوف ليعلوها الغبار، وتجد بها الأرضة مكانا دافئا للعيش والاختباء. اُحصوا عدد الوزراء الذين صبغوا بألوان خاصة، وعدد الذين هم بدون لون، وعدد الذين هم على استعداد ليغيروا لونهم غدا أو بعد غد، لتناموا قريري العين. أين الإبراهيمي وعليوة؟ وأين مولاي الزين الزاهيدي؟ بل أين كل أولئك الذين كشفت عنهم تقارير المجلس الأعلى للحسابات على عهد رئيسه السابق بن موسى؟ لذلك، مرة أخرى، لا تخافوا من كل ما قاله قضاة جطو. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فمن يتذكر وزراء الحسن الثاني الذين اتهموا بتلقي رشاوى على عهد الوزير الأول أحمد العراقي، والذين استقبلهم الحسن الثاني أشهرا قبل أن يقود ضده المذبوح انقلاب الصخيرات وقد قرر إما إعفاءهم أو تعيينهم سفراء؛ لكنه اكتفى فقط بمعاتبتهم وهو يقول لهم : «لقد خيبتم أملي فيكم، لكنني عفوت عنكم، فكما لو أنكم ولدتم من جديد». كل الذين اتهموا بسوء تدبير أو تبذير، عفا عنهم الزمن المغربي بعد أن تمنى هذا المغرب، الذي ينهب يمينا ويسارا، أن يولدوا من جديد. هل حدث ذلك؟ تسعفنا بعض الأحداث التي عرفها مغرب الحسن الثاني وصدره الأعظم، ادريس البصري، في فهم معنى أن نكتشف كيف تختلس الأموال العمومية وغير العمومية، دون أن تطال أصحابها يد الزجر. لقد صنع ادريس البصري كل شيء من أجل أن يقدم المغرب إلى العالم على أن له ديمقراطية فريدة لا تشبه كل الديمقراطيات، لأن مظاهر الرشوة والتهريب والتهرب الضريبي والاتجار في المخدرات، كانت أقوى من كل المساحيق؛ لذلك اختار في أواسط التسعينيات أن يطلق حملة، اصطلح عليها ب»حملة التطهير»، طالت الكثير من الأبرياء، فيما استثنت الضالعين الحقيقيين في جرائم التهريب والاتجار في المخدرات، التي كانت يومها عنوانا من عناوين مغرب الحسن الثاني الذي اعترف نفسه في 1992 بأن المساحة المزروعة بالعشبة الخضراء وصلت إلى 50 ألف هكتار، في الوقت الذي كان فيه مركز مراقبة المخدرات في العالم قد قال إن المغرب هو أول مصدر للحشيش إلى أوربا. بين تقارير قضاة ادريس جطو، التي كشفت كل المستور في العديد من مناحي الحياة السياسية والاقتصادية، وبين شعار رئيس الحكومة «عفا الله عما سلف»، يتوزع المغاربة ينتظرون ويتطلعون في خشوع إلى اللحظة التي يأتي فيها الفرج.