المنتصر السويني هذا التنظير كان مؤطرا من طرف نظريتين هامتين، شكلتا خلافا ما بين الباحثين في القانون العام: نظرية المصلحة العامة المرتبطة بالمشروعية الشعبية المفوضة للبرلمانيين مسبقا؛ ونظرية الفعالية والمردودية التي تحدد لاحقا من خلال المشاركة والتعاقد والقياس، وبالتالي عدم الاعتماد فقط على المواطن المصوت، بل كذلك من خلال الاعتماد على المواطن المستفيد من الخدمات العمومية. هذه المهام الجديدة أطرها بشكل جيد الدستور الجديد من خلال التنصيص على التصويت على القوانين والمراقبة والتقييم، كما أن الفصول 154، 155، 156، 157، 158 تتحدث عن كون المرافق العمومية تعتمد على التقييم والمحاسبة والشفافية وتقديم الحساب والمساواة وخدمة المرتفقين والأخذ بملاحظاتهم، والمصلحة العامة، وبالتالي فقد أخذ المشرع الدستوري بالتقييم والقياس والمشاركة والمصلحة العامة، ومن ثم توجه نحو التقييم والمبادئ الحديثة في التدبير المعتمدة على الحرية للمسيرين والتعاقد والقياس، وهو ما كان مطلوبا من المشرع التنظيمي للمالية التشديد عليه في النصوص التنظيمية المتعلقة بالحكامة والمالية، ولكنه بقي حبيس المصلحة العامة. دور المراقبة والتقييم: كان المطلوب من التقنقراط والسياسيين الذين يشرفون على تهييء مشاريع القوانين التنظيمية والقوانين الداخلية لمجلس النواب ومجلس المستشارين، أن يشرعوها بشكل واضح وعملي، من خلال التنصيص على حيز زمني محدد للمراقبة والتقييم؛ كما أن القواعد التي تحدد الأولوية في اشتغال الجهاز التشريعي من خلال تحديد البرنامج اليومي صارت تركز على المراقبة والتقييم (ولكن بالعودة إلى النظام الداخلي لمجلس النواب، وخصوصا الفصل 211، نجده قد خصص جلسة سنوية فقط لمناقشة السياسات العمومية وتقييمها، بينما يخصص البرلمان الفرنسي أسبوعا من كل أربعة أسابيع لتقييم السياسات العمومية). أمام هذا التنصيص الدستوري، كان من المفروض على الذين صاغوا مشروع القانون التنظيمي للمالية أن يحددوا كيفية ممارسة البرلمان لمهامه في المراقبة والتقييم، من خلال تكليف لجن المالية ورؤساء اللجن والمقررين بمهام المراقبة والتقييم؛ كما أن هذه المراقبة وهذا التقييم يتجسدان من خلال إلزام الحكومة بإعطاء أهمية للأسئلة المطروحة والإجابة عنها من خلال تحديد حيز زمني للإجابة عن الأسئلة. كما أن مهام المراقبة يجب أن تشمل المراقبة من خلال الوثائق والمراقبة في عين المكان، وتشمل أيضا إمكانية استدعاء أي شخص له علاقة بالتدبير من أجل المساءلة وإحضار الوثائق المطلوبة، هذه الأخيرة التي تشمل كل الوثائق ذات الطبيعة المالية أو الإدارية، وتشمل أيضا تقارير الأجهزة الرقابية. كما تضمنت القوانين التنظيمية لبعض الدول إمكانية تدخل القضاء إذا لم تتم الاستجابة لمطالب تقديم الوثائق، مما يعني أن الدور الرقابي والتقييمي للجهاز التشريعي يشمل الرقابة والتقييم في مفهوميهما الشموليين. ولكن وبقراءة لمشروع القانون التنظيمي كما صادق عليه المجلس الوزاري، يتضح أنه لا يمنح أي دور في ميدان الرقابة والتقييم ويحصر دور البرلمان في المصادقة على قوانين المالية، هذه المصادقة تبقى في الغالب مفروضة عليه بقوة النص الدستوري، إذ إن عملية التصويت على القانون المالي لم تترك للبرلمان إلا خيارين وحيدين متمثلين في التصويت قبل نهاية السنة المالية أو فتح الاعتمادات بمرسوم، وذلك لأن الخيار الثالث صعب التطبيق لأنه قد يتسبب في أزمة من خلال سحب الثقة، وبالتالي تهديد استمرارية الحياة الوطنية. إن مشروع القانون التنظيمي للمالية، من خلال عدم تحديد دور المراقبة والتقييم وكيفية ممارسة هذه الأدوار، يكون قد عمل على شل البرلمان بعدم تفعيله بعض المهام الدستورية التي نص عليها الفصل السبعون من الدستور، وبالتالي فقد جعل مشروعُ القانون التنظيمي للمالية من البرلمان كائنا مشلولا. 2) البرلمان والمجلس الأعلى للحسابات حدد الفصل الثامن والأربعون من الدستور، ما يلي: "يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة ويجيب عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة). هذه المساعدة المنصوص عليها دستوريا، منها مهمة التصديق على التقارير، خلق قنطرة للتواصل ما بين مهمة المراقبة التي يقوم بها البرلمان والتقارير الرقابية للمجلس الأعلى للحسابات، كما تم إلزام المجلس الأعلى للحسابات بالرد على الاستفسارات وطلب المساعدة التي يحتاجها البرلمان أثناء أدائه لمهامه، كما أن المجلس الأعلى للحسابات بإمكانه أن يقوم بمهام التفتيش التي يطلبها البرلمان،. هذه المهام كلها مهام تدخل في إطار مهمة المساعدة، التي يقدمها المجلس الأعلى للحسابات إلى البرلمان، أن مطالبة النخب الغيورة على المال العام بدسترة المجلس الأعلى للحسابات منذ تأسيسه في نهاية السبعينات رغم أن لم يتم ذالك إلى في الإصلاح الدستوري لسنة 1996، أي بعد ما يقارب العشرين سنة على تأسيسه إلا من اجل أن يكون البرلمان مؤسسة دستورية تقوم بمهام المساعدة للمؤسسات الدستورية بالإضافة إلى حماية المال العام،. إذا كان مطلب دسترة المجلس الأعلى للحسابات قد تحقق بعد ما يقارب العشرين سنة، فإن القيام بالمهام الدستورية المتمثلة في المساعدة قد حان الوقت لتجسيدها في القانون التنظيمي، وذلك بعد مرور ما يقرب من عشرين سنة بعد الدسترة، ولكن رأي المشرع التنظيمي كان غير ذالك واجل العملية إلى قانون تنظيمي مستقبلي قد يتطلب عشرات السنين الأخرى. إن مشروع القانون التنظيمي للمالية قد أنكر أي دور للمجلس الأعلى للحسابات في المهام الرقابية المتصلة بقوانين المالية وبالتالي جعل المشروع من البرلمان مصوتا أعمى على قوانين المالية، أن هذا الصمت هو خرق للدستور، ولكنه خرق لا تراقبه المحكمة الدستورية، لان مهام المحكمة الدستورية كما هو محدد في الفصل مئة واثنين وثلاثون من الدستور هو البث في مدى مطابقة القوانين التنظيمية للدستور، وبالتالي ليس من اختصاصها القول بأن القوانين التنظيمية لم تشر إلى مهام في القانون التنظيمي منصوص عليها دستوريا، لهذا فإن القوانين التنظيمية تشكل ألغاما حقيقية في طريق تطبيق الدستور. 3) البرلمان والحكومة والقانون التنظيمي للمالية إن الديمقراطية المحكومة، التي تبناها المغرب منذ بداية الحياة الدستورية، تجعل من البرلمان المغربي رهينة في يد الحكومة، هذه الحكومة تستمد قوتها من العصا السحرية التي تسمى "عقد الأغلبية". إن الدستور المغربي الجديد جعل الحزب الحائز على المرتبة الأولى في الانتخابات هو الذي يظفر بمنصب رئيس الحكومة ويقترح بالتالي الوزراء والتشكيلة الحكومية، مما يعني أن الدستور جعل من الحكومة فعلا سابقا على الأغلبية، وجعل من هذه الأخيرة فعلا لاحقا، وأعطى بالتالي دفعة قوية للحكومة على البرلمان. واشترط الدستور التنصيب الحكومي بعد التعيين من خلال مصادقة البرلمان على البرنامج الحكومي. وهذا التنصيب يمنح الحكومة دفعتين قويتين: الدفعة الأولى مرتبطة بوجود برنامج منصوص عليه دستوريا هي في حاجة إلى صلاحيات لتنفيذه؛ والدفعة الثانية هي وجود أغلبية برلمانية مساندة. هذا الفعل الأغلبي يجعل البرلمان أسيرا للحكومة من خلال استحواذها على المبادرة التشريعية، ويحد من مفعولية توزيع السلط ما بين الحكومة والبرلمان والمنصوص عليه دستوريا، ويجعل من البرلمان بالتالي مكتبا لتسجيل المقترحات التشريعية الحكومية والتصويت عليها في ما بعد فقط. المشرع الدستوري المغربي كان واعيا بهذه المعطيات عندما نص في فصله السبعين على أن البرلمان يصوت على القوانين، مما يعني ضمنيا وفعليا سلطة محدودة على عملية تهييء وصياغة القوانين؛ كما نصت هذه المادة كذلك على أن البرلمان يراقب عمل الحكومة ويقيم السياسات العمومية، وبالتالي فقد منح المشرع الدستوري سلطات كاملة للبرلمان في المراقبة وتقييم السياسات العمومية. إن مهمتي المراقبة وتقييم السياسات العمومية تتجسدان بشكل واضح من خلال القوانين الداخلية لمجلس النواب ومجلس المستشارين، وفي القانون التنظيمي للمالية. ولكن هذه النصوص حجمت هذه الأدوار، مما يتضح معه أن التقنقراط صاغوا هذين النصين بعقلية هي، في مجملها، ضد البرلمان وضد النص الدستوري. إن مهمتي التصويت والمراقبة والتقييم الفعليين تتجاوزان حالة الصراع والتنافس التقليديين ما بين البرلمان والحكومة وتدفعان في اتجاه نوع من الحكامة الوطنية الجامعة ما بين الحكومة والبرلمان، المستفيد الأول منها هو نوعية السياسات العمومية وفعاليتها ونجاعتها. 4) في مفهوم الصدقية إن قانون الميزانية يعرف أربعة مبادئ تقليدية، هي الوحدة والشمولية والسنوية والتخصص؛ ولكن مشروع القانون التنظيمي للمالية الجديد يضيف إلى هذه المبادئ الأربعة مبدأ الصدقية، حيث نصت المادة العاشرة من المشروع على أن قوانين المالية تقدم بشكل صادق مجموع موارد وتكاليف الدولة، كما أن المادة الثالثة والثلاثين من المشروع تنص على أن المحاسبين العموميين يتأكدون من احترام صدقية التسجيلات المحاسبية. هاتان المادتان ترسخان، كما في بعض التجارب الدولية، مبدأ الصدقية، سواء تعلق الأمر بالصدقية المتعلقة بالميزانية أو الصدقية المتعلقة بالمحاسبة، مما يعني أن المطلوب من الإدارات العمومية لم يعد هو تقديم حسابات مشروعة ومصادق عليها، بل إن هذه الحسابات عليها كذلك أن تعطي صورة صادقة عن الموارد والنفقات ونتائج التدبير والممتلكات والوضعية المالية. بتنصيص المادة العاشرة على أن هذه الصدقية يتم تقييمها انطلاقا من المعطيات المتوفرة أثناء إعدادها والتوقعات التي يمكن أن تنتج عنها، وهي صياغة ذكية استعملها المشرع الفرنسي كذلك، فإنها كانت تستهدف منح الجهاز التنفيذي هامشا كبيرا من السلطة على اعتبار أن تقييم هذه الصدقية يبقى رهينا بشرط الإمكانات وليس بشرط النتائج. وفي غياب شرط الإمكانات، المتعلقة أساسا بالوثائق المقدمة إلى البرلمان من طرف الإدارة وبنوعية هذه الوثائق، خصوصا وأن واقع الحال في المغرب قد أثبت أن الإدارة كانت دائما غير متجاوبة في ما يخص الشفافية وتقديم الوثائق النوعية المتعلقة بتدبيرها للمال العام، فإنها (الإدارة) كانت في الغالب خارج مراقبة البرلمان. ومما شجع الإدارة على التمرد على البرلمان أن السلط الممنوحة للبرلمان لإرغام الإدارة على تقديم المعلومة شبه منعدمة أو صعبة التطبيق وبالتالي غير مستعملة. وقد جعل عدمُ ممارسةِ الإدارةِ للشفافيةِ والإخبارِ من المعطيات الواردة في القانون المالي معطياتٍ عامة تغيب عنها الأرقام والمعطيات الواضحة المتأكد منها من طرف مؤسسات ذات مصداقية، وهو ما دفع البرلمانيين في غالبية الدول الديمقراطية إلى تفعيل المراقبة والتقييم من اجل وضع حد لكذب الإدارة على البرلمان. * باحث في السياسات العمومية