أصبح الاختيار الديمقراطي ثابتا من ثوابت الأمة الجامعة، ومن أهم أصنافه الديمقراطية المحلية التي تهتم بالشأن المحلي، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا... وهذا ما عبر عنه ب"سياسات القرب". وقد نهج المغرب منذ 1976 سياسة اللامركزية التي تطورت عبر هذه السنوات، وعرف الإطار القانوني تطورا، لكن رغم ذلك فإن الموضوع يحتاج إلى اجتهاد أكبر، خاصة إذا استحضرنا العطب الحاصل في اللاتركيز غير المتناغم مع اللامركزية. ومن أجل تناول هذا الموضوع سنركز على المحاور التالية: أولا: الجماعات الترابية وإشكالية التنمية تشكو الجماعات الترابية من قلة الموارد من أجل البناء التنموي، ولكن هل فكرت الجماعات الترابية في التعاون والتنسيق من أجل تحقيق البرامج التنموية؟ هل هي قادرة على تقديم مقترحات بانية تساهم في البناء الدستوري للإطار التأسيسي لبنية الجماعات الترابية؟ لن يتحقق هذا إلا باستشعار المصلحة العامة للتراب المجالي. ورغم عدم ملاءمة الإنتاج التشريعي للجماعات الترابية في معظمه للدستور، فإن القوانين الحالية على علاتها تسعف في القيام بالتنسيق بين الجماعات الترابية، خاصة إذا توفرت الإرادات السياسية العالية. إذن فالجماعات الترابية مطالبة بالانتقال من العمل الذاتي إلى العمل الجماعي والتضامني، في إطار التداخل بين الاختصاصات والقضايا المشتركة بين الجماعات الترابية. والإشكال المطروح هو أن هذه المسيرة الترابية على مستوى الجماعات ما زالت تعاني، لاعتبارات سياسية وقانونية ومجالية؛ فهل نحن مستعدون لإحداث برامج عملية تهتم بالحكامة الترابية والتضامن الجماعي والتدبير المشترك؟ إننا نتوفر على أكثر من 1500 جماعة ترابية، ولكن كم هو عدد المجموعات الجماعية؟ خاصة وأن مجموعة من المشاكل العالقة لا يمكن أن تحل إلا بهذا العمل الجماعي، نحو النقل والتطهير والتهيئة الترابية وغيرها من القضايا التي تدخل في سياسة القرب، أما إذا استحضرنا المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تشرف عليها الوزارة الوصية (الداخلية) فسيصبح الأمر أشد وأدهى رغم الإنجازات التي حققتها. نخلص من هذا الشطر إلى أن التضامن والعمل المشترك بين الجماعات الترابية يسير سير السلحفاة، مما أخر مشاريع متعددة على مستوى التنمية المستدامة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هناك أكثر من 1200 جماعة قروية. إذن، هناك قصور في الاهتمام بهذه الآلية التدبيرية الجماعية التي ستساهم حتما في فك العزلة عن العالم القروي، وتوازن بين المدن المتقاربة عن طريق التعاقد والشراكات؟ ثانيا: مأسسة التعاون الجماعي إذا كنا نقدر بأن هناك مشاكل على مستوى العالم القروي، فإن المدن تعاني كذلك رغم المجهودات المتعددة، خاصة إذا كان هناك فراغ تشريعي في مقاربة مجموعة من الآفات. فكيف يمكن مقاربة إشكالية دور الصفيح والبناء العشوائي من قبل الجماعات الترابية والسلطات العمومية؟ إننا بتصويتنا على دستور 2011 من الواجب ابتكار أساليب جديدة في إطار التنزيل الديمقراطي التشاركي والعمل المندمج والمتكامل، وبالتالي لا يمكن توحيد وسائل العمل، وشبكات الاتصال، والتجهيز الجماعي، بدون اعتماد عمل مؤسساتي واضح المعالم حتى لا نعيش إشكالية الاتكالية الناتجة عن تداخل السلطات والاختصاصات. ومن أهم معالم المؤسساتية، نذكر اللامركزية واللاتركيز. وللأسف، فإننا إن كنا حققنا تقدما لا بأس به على المستوى الأول، فإننا ما زلنا نعيش عطبا على المستوى الثاني. وفي تقديري، فإن التصور الدستوري الجديد للجهوية سيحل مشاكل كثيرة على المستوى التنموي، خاصة إذا مارسنا الحكامة الجيدة على مستوى التدبير لميزانية الجماعات الترابية، والصناديق المخصصة للبنيات الأساسية والتضامن بين الجهات. وقبل توقيع شراكات وتعاقدات مع طرف أجنبي، من اللازم بناء مؤسسة تنسق بين السلطات العمومية والهيئات المنتخبة والمؤسسات العمومية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمواطنات والمواطنين. إن المأسسة طريق إلى توحيد الجهود، وآلية مساعدة على إنجاز التنمية المحلية وتأصيل البنيات التحتية لكل القطاعات، من أجل المصلحة العامة، والمساعدة على عقلنة الاستثمارات، وتفعيل البرامج المشتركة، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا.. ومن هذا المنطلق، نؤكد أن التنمية والاستثمار والشراكات والتعاقد والتعاون.. كل هذا متوقف على استراتيجية جماعية، أساسها القرب والتدبير العام للشأن المحلي. إن العمل التضامني المؤسساتي بين الجماعات الترابية يرشد الموارد المالية والبشرية والنفقات، من أجل مقاربة القضايا الكبرى والمعقدة، وإعطاء فرصة للتعدد والتنوع، وتوسيع أفق العمل وفضاءات التدافع التنموي. من خلال هذه المعطيات، ألا يمكن اعتبار شركات التنمية المحلية آلية من آليات تعاون كل المتدخلين في الشأن المحلي؟ ألا يمكن اعتبار أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لم يُعطها ما تستحقه من أجل تحقيق الغايات التي أعلنها الخطاب الملكي سنة 2005؟ أليس توحيد الجهود طريقا سليما للالتقائية والانسجام؟ ما هو دور الدولة في تعزيز هذا الاختيار الجماعي؟ هل يمكن اعتبار الترسانة القانونية الحالية مطواعة لتحقيق التحديات؟ هل نحن قادرون على إعطاء نموذج فعال للديمقراطية المحلية المواطنة؟ ثالثا: التكوين والتنمية المجالية إن القضايا تتطور عالميا، مما يحتم المواكبة المستمرة للتعامل مع المستجدات. ومن الموارد المعتمد عليها في تدبير الشأن الترابي المحلي، المنتخبون والموظفون. والملاحظ أننا، إلى يومنا هذا، لم نستطع قانونيا وضع حد أدنى من التعلم الكافي لمن يرغب في الترشيح. والسبب سياسي لا أقل وأكثر. وأتمنى أن نشرع في هذا الإجراء تدريجيا مع مراعاة الرؤساء، وطبيعة الجماعة من حيث عدة أمور. أما بالنسبة إلى الموظفين فيمكن اعتبار أن المشكل بدأ يعرف الحل عندما ارتبط التوظيف بالاستحقاق كما نص على ذلك دستور 2011. ورغم ذلك، فالجماعات الترابية في حاجة إلى تأهيل، وإلى أن يكون التشريع مصاحبا له من حيث تطوير اللامركزية واللاتركيز، وجعل كل الفاعلين في المجال الترابي قادرين على تجديد المقاربة من أجل مباشرة القضايا المطروحة، من خلال العصرنة والحكامة والمهنية والمأسسة والدمقرطة، وتوفير الإرادات وتنمية العزائم من أجل التفاني في خدمة الصالح العام، مع التركيز على منهج التشجيع للذين يتفانون في عملهم، واتخاذ الإجراءات اللازمة في حق المخالفين.. وهذا من باب ربط المسؤولية بالمحاسبة. لقد أصبح الاختيار الديمقراطي ثابتا من ثوابت الأمة دستوريا، والنظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، وعلى أساس الديمقراطية المواطنة والتشاركية والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة. أما التنظيم الترابي للمملكة فأصبح، بمنطق الدستور، تنظيما لامركزيا، يقوم على الجهوية الموسعة. إن المقتضيات الدستورية حل واضح للمشاكل التي تعيشها الجماعات الترابية. فهل سنجتهد من أجل التنزيل الديمقراطي لهذه المقتضيات أم إن هناك أيادي خفية تريد إفراغ هاته المضامين النيرة من دلالاتها العميقة؟ ثم، لماذا تأخر المغرب في العمل بنظام اللاتركيز إلى يومنا هذا؟ إن طبيعة الإدارة المعاصرة أن تكون متحركة ومساهمة في التنمية، ولكون إدارتنا مقيدة وغير متحررة في إطار القانون فإن دار لقمان ستظل على حالها. وأعتبر أن هناك تكاملية بين اللامركزية واللاتركيز. هذا ما سيشجع التنافس التنموي بين الجهات، وتظل الدولة اللاعب الاستراتيجي في إحداث التوازن والتضامن بين الجهات، ولها قاعدة دستورية يمكن أن تنطلق منها. فهل نحن مستعدون للرفع من مستوى الجماعات الترابية من أجل الإبداع والابتكار والتنافسية الشريفة؟ هل استحضرنا المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقنا بعد التوافق على إخراج البلاد من أزمتها السياسية؟ ألا يمكن استثمار الاستقرار الذي ينعم به المغرب لمضاعفة الجهود من أجل تحقيق التنمية المستدامة؟ نتمنى ذلك.