يجب ألا ينظر إلى الانتقادات الإسرائيلية لاتفاق جنيف المؤقت -الذي توصلت إليه كل من إيران والدول الكبرى- على أنها تعبير عن استياء حقيقي مما جاء في بنوده، بقدر ما تمثل تكتيكا يهدف إلى فرض شروط تل أبيب في الاتفاق النهائي الذي يفترض أن يتم التفاوض بشأنه بين الجانبين بعد ستة أشهر. فبخلاف الردود التي صدرت عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعدد من وزرائه، والتي اعتبرت الاتفاق «خطأ تاريخيا»، فإن محافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب ترى في الاتفاق إيجابيات عديدة تعكس تراجعا واضحا لإيران. لكن من الواضح أن الرأي قد استقر لدى صناع القرار في تل أبيب على خوض غمار حملة دعائية ضد الاتفاق وشيطنته في الأشهر الستة القادمة، في مسعى واضح إلى إملاء شروط إسرائيل في الاتفاق النهائي. إخفاقات إيران ترصد محافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب عدة إخفاقات إيرانية في اتفاق جنيف المؤقت، على رأسها: موافقة إيران على مراقبة دولية حثيثة لكل مرافقها النووية، وضمنها المرافق التي لم يتم إبلاغ وكالة الطاقة النووية الدولية بوجودها بدون قيود أو شروط، وقف تخصيب اليورانيوم لأكثر من نسبة 5 في المائة، وتحويل مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المائة إلى وقود سائل، عدم تركيب المزيد من أجهزة الطرد المركزي في أي من مرافق إيران النووية، الالتزام ليس فقط بوقف العمل في مفاعل الماء الثقيل في «آراك»، بل وعدم تطويره. في الوقت ذاته، فإن الإسرائيليين يشيرون إلى أن الاتفاق أبقى على العقوبات الاقتصادية الخانقة، مثل القيود على النظام المصرفي الإيراني ومرافق صناعة النفط، إذ إن العقوبات التي سترفع ستترك أثرا إيجابيا محدودا للغاية على الاقتصاد الإيراني. لقد دفعت مظاهر التراجع الإيراني -كما عكستها بنود اتفاق جنيف إميلا لاندوا، رئيسة قسم مراقبة التسلح في «مركز أبحاث الأمن القومي» الإسرائيلي- إلى التعبير عن دهشتها من مهاجمة نتنياهو للاتفاق (موقع وللا الإسرائيلي 25-11-2013 )، في حين اعتبر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق الجنرال، عاموس يادلين، اتفاق جنيف «أفضل اتفاق مؤقت يمكن التوصل إليه في الوقت الحالي» (جيروزاليم بوست 24-11-2013). ولا خلاف في تل أبيب على أن الذي دفع الإيرانيين إلى القبول بهذا الاتفاق هو الآثار الكارثية للعقوبات التي فرضها الغرب على الاقتصاد والمجتمع الإيراني. ويسود اعتقاد في تل أبيب بأن الإيرانيين شرعوا في مفاوضات جنيف، وعلى رأس أولوياتهم التخلص من العقوبات التي تهدد بقاء النظام الإيراني ذاته. ومع ذلك، فإن محافل التقدير الاستراتيجي في إسرائيل ترى أن المأخذ الرئيس على الاتفاق هو حقيقة أنه لم يتضمن نصا واضحا يحظر على إيران إجراء تجارب يمكن أن تتم خارج المنشآت النووية، مثل محاولة تزويد الصواريخ الباليستية التي بحوزتها برؤوس نووية. وقد وظف وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه يعلون، غياب هذا النص لتبرير تخويفه الغرب من إمكانية قيام إيران بتطوير «القنابل القذرة» التي تقوم على الجمع بين المواد المتفجرة العادية والمواد المشعة، وتزويد جماعات «إرهابية» بها بعد ذلك. النموذجان: الليبي أو السوري ترى إسرائيل أن الاتفاق النهائي بين إيران والدول الكبرى يجب أن يكون مشابها تماما للاتفاق الذي توصلت إليه ليبيا مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا عام 2003، والذي بادر إليه الرئيس الليبي المخلوع معمر القذافي من تلقاء ذاته، حيث عرض التخلص من البرنامج النووي، وترك للبريطانيين والأمريكيين القيام بكل الخطوات التي يرونها مناسبة لتصفية هذا البرنامج. وقد اعتبر وزير الشؤون الاستخبارية الإسرائيلي، يوفال شطينتس، أن «النموذج الليبي» هو الذي يتوجب استنساخه في الاتفاق النهائي بين إيران والدول الكبرى (الإذاعة العبرية 25-11). لكن وزير الخارجية، أفيغدور ليبرمان، يرى أن الاتفاق الروسي الأمريكي لنزع السلاح الكيميائي السوري يصلح، أيضا، نموذجا يمكن الاقتداء به لدى صياغة الاتفاق النهائي مع إيران، حيث عبر عن مفاجأته من حرص نظام الأسد على الالتزام بما جاء في الاتفاق (إذاعة الجيش الإسرائيلي 24-11). وبغض النظر عن هوية النموذج الذي ترغب باستنساخه في الاتفاق النهائي، فإن تل أبيب ترى أن أي اتفاق نهائي يجب أن يشمل التالي: 1 - وقف عمليات تخصيب اليورانيوم بشكل كامل؛ 2 - تفكيك المفاعل الذري تحت الأرض في «بوردو»، وإغلاق مفاعل الماء الثقيل في «آراك» بشكل نهائي؛ 3 - مصادرة كل ما قامت إيران بتخصيبه من يورانيوم، حتى اليورانيوم الذي خصب بنسب منخفضة، حيث تزعم إسرائيل أن ما لدى إيران حاليا من يورانيوم مخصب يكفي لتركيب 6 - 7 قنابل ذرية؛ 4 - مواصلة فرض رقابة مشددة على المنشآت النووية، والسماح بجولات تفتيش للمراقبين الدوليين بدون تقييد، وبشكل يومي. وترى إسرائيل أنه في حال عدم قبول إيران بهذه الشروط، فإنه يتوجب إلغاء الاتفاق المؤقت وفرض عقوبات جديدة أكثر صرامة والتلويح بتهديد عسكري ذي مصداقية. تحرك شامل إن سعي إسرائيل إلى فرض شروطها في الاتفاق النهائي بين إيران والغرب يدفعها إلى تنسيق المواقف مع الإدارة الأمريكية بشأن الخطوط الحمراء التي يتوجب على واشنطن الالتزام بها عند بدء التفاوض مع طهران. ومن أجل تحقيق هذا الغرض، تم الاتفاق على إرسال عدة وفود تمثل المستويات العسكرية والأمنية المهنية لواشنطن لتحقيق تفاهمات بهذا الشأن. وإلى جانب ذلك، تسعى تل أبيب إلى تحقيق هدف سهل المنال يتمثل في تجنيد كل من الكونغرس والمنظمات اليهودية للضغط على الإدارة من أجل قبول الموقف الإسرائيلي من الشروط الواجب توافرها في الاتفاق النهائي. ومن الواضح أن إسرائيل تدرك أنها تجد آذانا صاغية في الكونغرس، حيث إن زعيم الأغلبية الجمهورية في الكونغرس إريك كنتور وصف الاتفاق مع إيران بكونه «لا يساوي الورق الذي كتب عليه». وقد شرعت «أيباك»، كبرى مجموعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة، بالفعل، في حملة لدى ممثلي الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس للضغط على إدارة أوباما، لإجبارها على الالتزام بالشروط التي ترى إسرائيل وجوب توافرها في الاتفاق لنهائي. وتحرص إسرائيل على مواصلة التأثير في الرأي العام الأمريكي من خلال قيام نتنياهو ووزرائه بإجراء المقابلات مع قنوات التلفزة الأمريكية لشرح الموقف الإسرائيلي. ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن النخب السياسية والثقافية في تل أبيب رفضت بشدة موقف وزير الخارجية ليبرمان الداعي إلى البحث عن حلفاء جدد وتقليص الاعتماد على الولايات المتحدة في أعقاب الخلافات بينها وبين حكومة نتنياهو بشأن طابع التعاطي مع الملف النووي الإيراني. ويسود في تل أبيب اعتقاد أنه على الرغم من الخلافات مع إدارة أوباما، فإن الولايات المتحدة تبقى هي أكثر الدول اهتماما بتحقيق المصالح الإسرائيلية. إغراء الصين وروسيا لا تجد إسرائيل مشكلة كبيرة في إقناع كل من بريطانيا وفرنسا بقبول مواقفها من المشروع النووي الإيراني، فالأخيرة كانت أكثر الدول تشددا في التعاطي مع هذا الملف أثناء المفاوضات التي سبقت الإعلان عن الاتفاق. وفي المقابل، تدرك تل أبيب أن التحدي الذي يقف أمامها هو استمالة الصين وروسيا إلى موقفها، حيث تخشى أن تدفع الاعتبارات الاقتصادية كلا من بكين وموسكو إلى إبداء مرونة تجاه إيران خلال المفاوضات على الاتفاق النهائي. من هنا، فإن تل أبيب تزاوج في تحركها تجاه هاتين الدولتين بين الاتصالات الدبلوماسية والإغراءات الاقتصادية، فقد أمر نتنياهو بعدم تعاون الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مع محكمة أمريكية تنظر حاليا في اتهامات لبنك «أوف تشاينا» الصيني بدعم الإرهاب، علاوة على تعليماته لسلطة التطوير والبحث الإسرائيلية بإبداء أقصى درجات التعاون الممكن مع المؤسسات الرسمية والأكاديمية الصينية في مجال الأبحاث المتعلقة بالتقنيات المتقدمة، ولاسيما تلك المخصصة للأغراض العسكرية. وفي الوقت ذاته، عرضت إسرائيل على روسيا التعاون في مجال تسويق الغاز، وقامت بتزويدها بمعلومات حول أنشطة جماعات إسلامية تعمل في القوقاز (قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة 22-10-2013). موت الخيار العسكري إن الذي يزيد من رهان إسرائيل على الاتفاق النهائي بين الغرب وإيران كآلية لتصفية برنامج طهران النووي هو تهاوي الرهان على الخيار العسكري كوسيلة لتحقيق هذا الهدف، فقد تزامن الإعلان عن توقيع الاتفاق مع إيران مع كشف بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية النقاب عن أن إسرائيل لم تكن جادة في تهديداتها بشن عمل عسكري ضد المرافق النووية الإيرانية (قناة التلفزة الثانية 24-11-2013). وتبين أن التهديدات -التي كان يطلقها نتنياهو تجاه إيران- كانت تهدف إلى الضغط على الولايات المتحدة، لدفعها إلى تشديد العقوبات الاقتصادية، وهذا ما دفع المعلق الإسرائيلي البارز شالوم يروشالمي إلى مطالبة نتيناهو بتقديم تفسيرات حول إنفاقه مبلغ 3.3 مليارات دولار على تدريبات واستعدادات لضرب إيران، دون أن ينوي حقا شن مثل هذا الهجوم (معاريف 24-11-2013). من هنا، فإن إسرائيل ترى في الاتفاق النهائي الفرصة الوحيدة في محاولتها التخلص من البرنامج النووي الإيراني الذي ترى أنه التهديد الوجودي الوحيد لها، ليس لأن صناع القرار في تل أبيب يعتقدون أن الإيرانيين سيستخدمون السلاح النووي ضد إسرائيل في يوم من الأيام، بل لأن التسليم بحصول إيران على سلاح نووي يضفي شرعية على توجه كل دول المنطقة للحصول على مثل هذا السلاح، مما يفقد إسرائيل تفوقها النوعي. لكن، على الرغم من كل ما تقدم فإنه لا توجد أوهام لدى تل أبيب بشأن مستقبل القدرات النووية الإيرانية، ولا شك لديها في أن الإيرانيين سيحصلون في النهاية على السلاح النووي، وأن التحرك الإسرائيلي ينصب على محاولة تأجيل هذه اللحظة قدر الإمكان. وقد عبر عن هذا التصور الشخص الذي ارتبط أكثر من أي شخص آخر بالحرب السرية التي خاضتها إسرائيل في العقد الأخير ضد المشروع النووي الإيراني، وهو مئير دغان، الرئيس السابق لجهاز الموساد. فحسب دغان، إن دولة بحجم وإمكانيات إيران ستتمكن في النهاية من الحصول على السلاح النووي في حال قررت دائرة صنع القرار السياسي في طهران ذلك (يديعوت أحرنوت 24-11-2013). صالح النعامي