هناك مفارقة تعيشها الحياة السياسية المغربية حاليا.. عبد الإله بنكيران يبذل قصارى جهده لنيل رضى جهات معينة، ولكنه لا يحصد سوى التحفظ منه ونكران جميله والنفور منه؛ يقدم التضحيات الضرورية وغير الضرورية ويبذل التنازلات، بسخاء مدهش، من أجل الحصول على نوع من الاعتراف والقبول والتقدير، ولكن بدون طائل. مقاربة الرجل لإدارة الشؤون العامة يُفترض ألا تطرح، مبدئيا، أية مشكلة، فهو يقدم نفسه باعتباره الأصلح للدولة والأقرب إلى منطقها وإيديولوجيتها والأكثر تفهما لهمومها وهواجسها، وهو يعتبر أن الدولة لن تجد طرفا آخر غيره أكثر استعدادا للتعاون معها وأكثر حرصا على خدمتها. الرجل يريد أن يبقى مركز القرار هو هو، وأن يظل القصر قائدا للمشروع التنموي وأن يستمر تطبيق برنامج الدولة القار. الرجل يؤمن بالاختيار الليبرالي ويعتبر ذلك مفروضا دينيا انطلاقا من التفسير الذي يقدمه لمقولة أن الله فضل بعضنا على بعض في الرزق، كما يعتبر طاعة «ولي الأمر» واجبة شرعا ويرى أن الطاعة يجب أن تُفهم بمعناها الواسع الذي يجعل من رئيس الحكومة مجرد مساعد لولي الأمر. الرجل قبِل ألا يعلن الحرب على الطبقة الاقتصادية الريعية وألا يفكك منظومة المخزن الاقتصادي، وألا يُدْخِلَ أي تغيير جوهري على البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية القائمة. الرجل قبِل استمرار تمتع وزارة الداخلية والإدارة الترابية و»الأجهزة» بحق العمل باستقلال عن رئاسة الحكومة وباعتماد على منطقها الخاص وولاءاتها التقليدية، وقبل استمرار المستشارين الملكيين في ممارسة الأدوار ذاتها التي لعبوها في الماضي. الرجل لا يعتبر الدستور مرجعا لضبط العلاقات بين المؤسسات ولرسم الحدود التي تقف عندها كل مؤسسة ومساحة السلطة المخولة لها، بل يعتبر أننا نعيش في ظل خصوصية مغربية تجعلنا جميعا أشبه بعائلة واحدة ممتدة، لها أب رحيم بالجميع ومؤتمن على سعادة ومستقبل العائلة وعلى التمييز بين ما يضرها وما ينفعها، وأن شعار المواطنة لا يعني التنكر لمفهوم الرعية ولأثره الإيجابي على استقرار وأمان وطمأنينة البلد. الرجل لا يستقوي على أحد بالدستور، ولا يرفض العمل، ضمن نفس الفريق الحكومي، مع من كان يعتبرهم ألد خصومه، ولا يرى أن من حق الحكومة الانفراد بإعداد مشاريع القوانين التنظيمية بدون توجيه من أعلى، ولا يتردد في تحويل شعار التوافق إلى خضوع، ولا يرفض فكرة سقوط الدستور بعدم الاستعمال إذا كان ذلك في مصلحة مسعاه إلى تطبيع علاقاته مع مركز الدولة الأصلي. وكل ما يطلبه بنكيران هو، فقط: - أن يحظى بالاعتبار ويتم التعامل مع حزبه بشكل طبيعي خال من جميع أشكال التحفظ والحذر والاشتباه؛ - أن يُصان حق وزراء الحزب في الاحتفاظ لأنفسهم بصورة إيجابية لا تشوبها شائبة ولا يلحقها خدش، وفي التمسك بنظافة اليد ونقاء الذمة، واعتبار هذا كافيا لإعادة كسب ثقة الناس حتى وإن لم يُرفق ذلك بتدابير جريئة تروم فرض نظام تخليقي عام ومحاربة منهجية للفساد؛ - أن يضيف بعض التوابل الحزبية إلى البرنامج المطبق على الأرض تسمح بظهور الحزب بمظهر المكلف، من طرف إمارة المؤمنين، بدعم حراستها للأخلاق والقيم والدين والملكية والأسرة والهوية. لكن يظهر أن بنكيران، إلى حد الساعة، يعطي ولا يأخذ، يطلب الود ويلقى الجفاء، يسعى إلى تطبيع علاقته بمن توجد بينه وبينهم هوة وشقاق وبرودة فلا يفلح؛ فهناك من يتعمد الإساءة إليه بدون حاجة إلى ذلك، سياسيا، وهناك صحافة مقربة من بعض دوائر القرار، تجلده صباح مساء، بسبب أو بدون سبب، وهناك حملات ظالمة تُوَجَّهُ إليه وتنطوي على الكثير من الرغبة في الإهانة والإذلال، فتُقمع تظاهرة لشباب التجديد الطلابي، ويُكَسَّرُ فك برلماني حزبي، ويُمنع رئيس الحكومة، في آخر لحظة وبدون أي إشعار أو مساع إلى حفظ ماء الوجه، من ترأس تجمع جماهيري لحزبه، ويتصرف مسؤولو وزارة الداخلية، بمناسبة الانتخابات الجزئية، كما لو كانوا معفيين، بشكل مطلق، من تقديم الحساب إلى جهة تُسمى «رئاسة الحكومة»! وهناك رموز سياسية تُحقن بالمنشطات وتتلقى الدعم، الذي لم يعد مستترا، لمهاجمة بنكيران وتسفيه خطابه واعتباره أصل كل المشاكل والعلل التي تلم بالجسد المغربي والمسؤول الأوحد عن كل الكوارث حتى ما كان منها قائما قبل حلول الرجل بالموقع الحكومي. من المؤكد أن بنكيران يتحمل قسطا هاما من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحالة الركود التي تجثم على صدر البلاد، اليوم؛ وأنه، أصلا، لا يحمل مشروعا بديلا وإرادة مسبقة للتغيير الجذري؛ وهو يجني ثمار خطة لم تنشغل، منذ البداية، بِهَمِّ بناء جبهة للانتقال الديمقراطي والوفاء لمتطلباته والربط بين دينامية الشارع والدينامية المؤسسية؛ وعوض أن يتحالف مع حركة 20 فبراير من أجل الديمقراطية، تحالف مع خصوم الحركة من أجل قليل من الديمقراطية، مقدرا أن هذا القليل يكفي مغربيا. وبغض النظر عن الأخطاء الفعلية لعبد الإله بنكيران، يبدو أن الذين يكرهونه يمعنون في كرهه كلما أمعن في التقرب منهم والتودد إليهم واسترضائهم؛ فلماذا يكرهونه يا ترى؟ وما هو سر هذا الشعور الذي لا تزيده الأيام إلا اتقادا وتأججا؟ وما هي العوامل التي يمكن أن تفسر قوة هذا الحنق والمقت الذي يملأ نظرة البعض إلى رموز الحزب الإسلامي المشارك في تدبير الشأن الحكومي، اليوم، وعلى رأسها الأمين العام للحزب: هل يتعلق الأمر بكون الحكوميين الإسلاميين لا يتصرفون كرجال دولة ولا يتحلون بصفات رجال الدولة من تبصر ودقة في المعلومات المدلى بها وعمق في التفكير واتزان في المواقف وتقدير للعواقب والتبعات وإحساس بالمسؤولية وابتعاد عن الانفعال والصراخ وتجنب السقوط في التضارب والتناقض في الخطاب؛ أم يتعلق بضعف الكفاءة وعدم القدرة على التتبع الدقيق للملفات والعجز عن تقديم الحلول الخلاقة والمنتجة. للأحزاب الإسلامية، عموما، وفرة في الأطر المتوسطة والشباب والنساء، ولكنها تشكو من كون النخب الأكثر اقتدارا والأغزر عطاء والأوفر إبداعا تتجنب العمل ضمن بنية حزبية تجر معها الكثير من ذيول الماضوية ولا تستوعب، بالقدر المطلوب، تحولات العالم المعاصر؛ أم يتعلق بالخوف من قوة تأثير الإسلاميين في القواعد الشعبية وامتلاكهم، بذلك، سلاحا فعالا لإحراج الآخرين، وقدرتهم الحاذقة على الاستفادة، أحيانا، من انتشار الأمية والجهل والتخلف والخرافة؛ أم يتعلق بتوفر الإسلاميين المغاربة على حزب حقيقي متماسك البناء، يحتكم إلى قدر هام من الديمقراطية الداخلية، ويفيض حيوية ونشاطا، ويُدَبَّرُ بطريقة عقلانية رغم الطابع اللاعقلاني للكثير من أوجه خطابه الدعوي، ويتخذ قراراته باستقلالية نسبية، علما بأن العدو الأساسي للسلطوية هو القوة الشعبية المنظمة والمتمتعة بالاستقلالية والمصداقية، ولا تستطيع أن تنام مرتاحة ما لم تنجح في اختراق تلك القوة؛ أم يتعلق بتمكن الإسلاميين المغاربة، عموما، وبدون جسيم تضحيات أو كبير عناء أو قوائم طويلة من الشهداء والمنفيين والمعتقلين، كتلك التي قدمها اليسار، من جني نوع من «الريع» الناجم عن صعود النزعة الهويتية الدينية؛ أم يتعلق بالامتعاض من قدرة الشعبوية على تجنيد الناس خلفها باستعمال الدين والغريزة ورفع شعارات تبسيطية وبدائية يعلم رافعوها أنها لا تقدم، في الواقع الملموس، حلولا واقعية وعملية، يزايدون بها على الآخرين، ويكسبون بها عطف الجماهير ويقدمون أنفسهم، من خلالها، كمدافعين عن هوية مُسْتَهْدَفَةٍ تُحاك ضدها مؤامرات غربية متواصلة؛ أم يتعلق بوجود إحساس بأن الإسلاميين جميعا حَّولوا التقية إلى منهج يومي في السلوك وشرعنوا، بذلك، كل أشكال الحربائية ونكث العهود والتقلب في المواقف. وبالتالي، هناك من يخشى، إذا ما توفرت لهم سبل التحكم والسطوة، أن ينقلبوا على الديمقراطية ويتحولوا من ضحايا إلى جلادين، ويعتبر أنهم لا يمكن أن يكونوا موضع ثقة؛ أم يتعلق بكون التلميح البنكيراني إلى إمكان عودة الحراك السياسي للشارع يتضمن، ربما، تهديدا مبطنا وينم عن عقلية تمارس الابتزاز، ولهذا لجأت بعض أحزاب المعارضة إلى تنظيم فعاليات مناهضة للبنكيرانية تحت شعار رفض الابتزاز؛ أم يتعلق بارتباط الإسلاميين بأجندة أجنبية وانضوائهم تحت لواء التعليمات الصادرة عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وبالتالي إنكارهم لبعض عناصر تميز «الإسلام المغربي»؛ أم يتعلق، حسب البعض، بركوب الادعاء والجمع بين تمجيد الملكية و»التطاول» عليها، عن طريق التصريح بأن حزب العدالة والتنمية هو الذي حمى الملكية أمام غضب الشارع وأن العلاقة بها ليست، دائما، سمنا على عسل؛ أم يتعلق بما يؤدي إليه تزايد نفوذ الإسلاميين من تزايد للتشدد الهويتي الذي يضعف صورة المغرب كملتقى للحضارات وأرض للحوار والتسامح والتعايش؛ أم يتعلق بزلات لسان بنكيران ورفاقه وبعضها يكشف المطمور ويجلي ما في الصدور، وبتمييع الخطاب السياسي عبر كثرة اللجوء إلى القفشات والمستملحات والدعابات؛ أم يتعلق بالمبالغة في إبداء فروض الطاعة والولاء وبذل عبارات الثناء والإكبار والتبجيل حيال الملكية، بمناسبة أو بدون مناسبة وبشكل كثيف ومتكرر، ومن المعلوم أن المبالغة في المدح لا تبعث، بالضرورة، على الاطمئنان. إن الإطراء الزائد قد يولد أثرا عكسيا؛ والغلو في إنتاج خطاب الطمأنة قد يزعج؛ والتحمل، بلا حدود، قد يخيف.. محمد الساسي