كانت خطوة الفاعل الجمعوي نور الدين عيوش، وهو يعقد ندوة تربوية مباشرة بعد الخطاب الملكي، ثم وهو يقترح، في واحدة من خلاصات هذه الندوة، أن تجرب المدرسة المغربية التدريس باللغة الدارجة المغربية على الأقل في صفوف التعليم الأولي، بمثابة المحرك الذي أخرج عددا من المثقفين والمفكرين والمهتمين إلى العلن، لوضع تصوراتهم حول مستقبل المدرسة المغربية. واليوم، وقعت أكثر من مائة شخصية وثيقة لإصلاح حال هذه المدرسة من بينهم وزراء سابقون، وزعماء أحزاب، ومثقفون، ومفكرون وضعوا مسودة للإصلاح تنطلق من رصد الاختلالات، واقتراح الحلول. ما الجدوى اليوم من سلسلة جلسات الاستماع، التي أطلقتها وزارة رشيد بلمختار، ومعها المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمي، حول مستقبل المدرسة المغربية؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه اليوم الكثير من المتتبعين والمشتغلين بقطاع التربية والتعليم، بعد أن تعددت الخرجات التي قادتها جمعيات وأشخاص وضعت مقترحاتها بشأن مستقبل المدرسة المغربية، والتي كان الخطاب الملكي قد أماط عنها الكثير من اللثام. فبعد مذكرة الفاعل الجمعوي نور الدين عيوش، وما أعقب ذلك من جدل واسع حول اعتماد الدارجة المغربية كلغة للتدريس في المؤسسات التعليمية، خصوصا في التعليم الأولي، كان لا بد أن يتحرك المثقفون والمفكرون لوضع، ما يعتبرونه، صيغة أمثل لإصلاح منظومة التربية والتكوين، خصوصا وأن خروج المفكر عبد الله العروي عن صمته، وقبوله الحضور في مناظرة تلفزيونية للدفاع عن اللغة العربية، كان بمثابة ناقوس الخطر الذي دق بشأن مستقبل هذا القطاع الحساس والحيوي، والجدوى من دخول أهل الفكر على خطه من أجل مستقبل أفضل لناشئتنا. آخر المذكرات، هي تلك التي وقعها في بحر الأسبوع الأخير، أكثر من مائة شخصية ضمت وزراء سابقين، ومثقفين، ومفكرين، وزعماء سياسيين، قالت بضرورة البحث أولا عن مكامن الخلل، ثم السعي لإصلاحها بإشراك كل الذين يعنيهم الأمر. مع التأكيد على أن الزمن المدرسي، هو غير الزمن السياسي، الذي ينتهي بنهاية مرحلة سياسية. لذلك لا بد، بحسب مذكرة المائة شخصية، أن توضع سياسة تعليمية على المدى البعيد. كانت الوثيقة الجديدة، عبارة عن مخطط يتضمن جملة من المقترحات التي تروم إصلاح منظومة التربية والتعليم. وقال محمد الخصاصي، الذي قدم نفسه متحدثا باسم اللجنة المشرفة على المبادرة، «إن المخطط الذي أعدته اللجنة يرتكز على ثلاثة أسس، أولها واقع الاختلالات والتعثرات التي تطال المدرسة والجامعة المغربية، رغم ما تبذله الدولة من جهد لإصلاح قطاع التعليم. وثانيها هو الاشتغال العميق إزاء تداعيات هذا الواقع، وانعكاساته على المؤسسات التعليمية. أما الشق الثالث، فيهم دعم الإرادة السياسية لإصلاح المنظومة التعليمية التي عبر عنها الخطاب الملكي. وسجل الخصاصي أن هذه المبادرة هي جزئية، وغير ذات موضوع، قبل أن يؤكد على «أن أي نظام تربوي لا يمكن أن يكون إلا باللغة الوطنية، الحاملة للتاريخ والحضارة والفكر»، واصفا النقاش الذي صاحب مبادرة عيوش ب»الجدل العقيم الذي لا يقدم شيئا». وكان المفكر محمد سبيلا، منسق المبادرة الوطنية من أجل إصلاح التعليم، قد أكد على أن المبادرة جاءت انطلاقا من النقاش الدائر حاليا حول موضوع إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية، من منطلق منظور وطني خالص، قادته مجموعة من الفعاليات، ومن المهتمين، والذين حرروا بيانا من حوالي 15 صفحة، يتضمن المشاكل البنيوية والتنظيمية، ومظاهر الخلل، وأشكال التعثر التي تعاني منها المنظومة، بعيدا عن أي تحيزات حزبية أو فئوية. وسجل سبيلا أن المسألة التعليمية تهم الوطن وتطور المغرب، «ونحن كمثقفين ونخب، يقول سبيلا، نتداعى للبحث عن حلول لاختلالات المنظومة التعليمية». موضحا أن المبادرة لقيت ترحيبا واسعا من طرف الشخصيات الوطنية والنقابية والأكاديميين والمثقفين، وسترافقها ندوات ولقاءات مع المسؤولين لشرح مضامينها، وعدد من الدراسات والاحصائيات التي ستنشر على الموقع الرسمي للمبادرة، الذي سيكون مفتوحا أمام الجميع من أجل الانخراط أو تقديم الاقتراحات. حينما نتأمل تفاصيل هذه المذكرة، ونطرح السؤال عن البديل الذي تقترحه، نكتشف أن جل التقارير التي سبقت منذ أكثر من عقد من الزمن، والتي رصدت للاختلالات التي تعاني منها المدرسة المغربية، وما الذي يجب أن نقوم به، هي التي تكرر نفسها بصيغة أو بأخرى. لقد سبق للمخطط الاستعجالي، الذي حمله الوزير احمد اخشيشن، أن تحدث عن الاختلالات نفسها التي تعني ارتفاع عدد التلاميذ الذين يغادرون مقاعد الدرس، وعن ضعف التعلمات الأساسية، وفقر التجهيزات، وضعف التكوين. لذلك حمل مخططه الاستعجالي، والذي انطلق في 2009 وكان يفترض أن ينتهي في 2012 بعد أن يخضع للتقييم، جملة من المشاريع برقم مالي محترم. كما أن المجلس الأعلى للتعليم، في نسخته السابقة، كان قد دق ناقوس الخطر لما يعترض المدرسة المغربية من إكراهات تجعلها تقف في وجه إنجازها لمهامها التربوية، لخصها في أربعة محاور أساسية هي الإشكالية اللغوية، ومهنة التدريس، وواقع برامج التربية غير النظامية ومحاربة الأمية، ثم الشراكة المؤسساتية من أجل مدرسة أفضل. لقد شكلت مسألة التحكم في الكفايات اللغوية، من خلال تعميق التشخيص الميداني لواقع تدريس اللغات، القضية الأبرز في كل نقاش يهم مستقبل المدرسة المغربية. وقالت التقارير إن الواجب هو اسثتمار الدراسات الوطنية ذات الصلة، وإجراء مقارنة للأنظمة التربوية بغاية استلهام تجربتها في مجال التحكم اللغوي، مع الاعتماد على الخبرات الوطنية والدولية لتعزيز التشاور وتكريس المقاربة الشاركية الموسعة لمعالجة هذه الإشكالية. واليوم، حينما نقرأ بعض أفكار المباردة، التي وقع على وثيقتها عبد الرحمان اليوسفي مثلا، وبن سعيد أيت إيدر، وامحمد بوستة، وسبيلا والخصاصي، ومولاي اسماعيل العلوي، وجل وزراء التربية الوطنية الذيت تعاقبوا على تدبير شأن هذا القطاع، نكتشف أن الحلول هي نفس التي تداولها سواء المخطط الاستعجالي، أو تقرير المجلس الأعلى للتعليم. هذه الروح نفسها، هي التي نكتشفها حينما يتعلق الأمر بقضية التكوين والتكوين المستمر لنساء ورجال التعليم. وهي القضية التي كانت التقارير السابقة قد توقفت عندها، واعتبرت أن إصلاح مهنة التدريس سيكون واحدا من عوامل نجاح المدرسة المغربية. يكاد يجمع جل المشتغلين بالقطاع اليوم على أن التكوين لا يستجيب في العديد من محتوياته، ومناهجه، والمدة التي تخصص له، لشروط الإصلاح خصوصا حينما يتعلق الأمر بالتعليم الابتدائي. وتظهر الصورة في عدم تحسين الكفايات التربوية، والقدرة على تطبيق التوجيهات البيداغوجية الجديدة. زد على ذلك، أن الوضعية المتدهورة للبنايات المدرسية والتجهيزات، تساهم بنسبة كبيرة في ضعف انخراط المدرسين في أداء مهامهم على الوجه الأكمل. مع ما يرافق ذلك من ضعف على مستوى الوسائل الديداكتيكية، والاكتظاظ، والأقسام المشتركة، وغياب سكن وظيفي ووسائل نقل قارة، ومرافق صحية، خصوصا بالنسبة للمشتغلين في الوسط القروي. أما لتأهيل المدرسة المغربية، فالضرورة تفرض اسثتمار ما جاء به المخطط الاستعجالي في هذا المجال. لقد ظلت بعض الأرقام مخيفة كلما تعلق الأمر بمعدل الإنفاق على كل تلميذ مغربي، إذ كان في حدود 600 دولار للتلميذ الواحد، فيما ظلت نسبة الموارد المخصصة للتعليم المدرسي ترصد في نسبة كبيرة منها للأجور. أما نسبة الاستثمار، فلم تكن تتجاوز في مجملها 12 في المائة. اليوم يعترف أهل القطاع أن المخطط الاستعجالي حمل معه مشاريع رائدة على مستوى البنايات والتجهيزات من أجل تحقيق الهدف الأكبر وهو تأهيل المدرسة المغربية لتحقق الجودة المنتظرة منها. في الشق الثالث، الذي اعتبره تقرير المجلس الأعلى حاسما في الإصلاح، نكتشف أن التربية غير النظامية، ومحو الأمية شكلتا هما أساسيا للمدرسة المغربية منذ جاء الميثاق الوطني للتربية والتكوين. لذلك يفترض أن تفتح المدرسة هذا الورش الأساسي، لكي تكون قد قامت بمهمتها على الوجه الأكمل. وتبقى قضية الشراكات المؤسساتية ضرورة على اعتبار أن المدرسة المغربية لا تعني الوزارة المشرفة على القطاع فقط، ولكنها تعني عدة جهات ومؤسسات. والأمر هنا يعني الجماعات المحلية بالدرجة الأولى. فأهل الدار يعترفون أن فعالية المجالس الجهوية لأكاديميات التربية والتكوين، والتي تضم ممثلين عن الجماعات الترابية، مازالت ضعيفة. كما أن مجالس التدبير التي أحدثت في المؤسسات التعليمية، لم تحقق ما كان منتظرا منها. ومن الأرقام الصادمة عن فشل هذه الشراكات المؤسساتية هو أن نسبة 0.5 في المائة من الميزانية العامة لأية جماعة ترابية، هو ققط ما يصرف اليوم للمدرسة، لإنجاز بعض الإصلاحات من ماء صالح للشرب، وكهربة، ومرافق صحية. وسواء أعدنا للتقارير السابقة، أو توقفنا عند هذه التي رسمها الكثير من الذين دخلوا على خط الإصلاح من جمعيات وشخصيات فكرية وثقافية، لن نتيه عن الأسباب الجوهرية التي تجعل المدرسة المغربية غير قادرة على تحقيق الجودة. أما الإصلاح، فلن يخرج عن أضلع الإشكالية اللغوية، والتكوين، وتأهيل المدرسة المغربية على مستوى التجهيزات الأساسية. وهي القضايا الكبرى نفسها التي حملتها المبادرة الوطنية لإصلاح التعليم، وحملتها قبل ذلك تقارير وزارية، ودق بشأنها المجلس الأعلى للتعليم ناقوس الخطر.