لا شك في أن مصر لم تتعرض طيلة تاريخها المعاصر إلى هذا المستوى العميق من الاضطراب والفوضى وحجم الاستقطاب والانقسام المجتمعي الذي بات يهدد -جديا- بتفجير بنيتها السياسية والاجتماعية. ويمكن أن نعزو شدة هذا الاستقطاب إلى تلك المتغيرات السريعة والحادة التي أطاحت بنظام سياسي تجاوز عمره نصف قرن بأدوات افتراضية، دون أن يستعد أو يتخيل ثوار قنوات التواصل الاجتماعي عبر تقنية الاتصالات نوع النظام أو شكله، مما وضع المجتمع وجها لوجه أمام نفسه لتتفجر كل تناقضاته و»احتقاناته» وتوجهاته دون ضابط أو قيد أو شرط، وشكل انعكاسا خطيرا لاختلاط المفاهيم والقناعات في النظرة إلى ماهية هذه المتغيرات. في ظل هذه الفوضى المجتمعية والسياسية والقيمية، لم يكن هناك في مصر سوى جهتين احتفظتا بتنظيمهما وقيادتهما وتوجهاتهما قبل حصول التغييرات وفي ظلها ولا تزال: العسكر بقيادة مؤسسة الجيش، والإسلاميون بقيادة تنظيم الإخوان المسلمين، وهما حاليا ومناصروهم -محليا وإقليميا- يشكلان رأس الحربة في هذا الاستقطاب والانقسام، وحولهما يدور موضوع في اختلاط مفاهيم الثورة والانقلاب والشرعية والمشروعية. ثورات غير ناضجة لم تكن سرعة عقارب الساعة في ساحات وميادين التحرير تسير بنفس سرعة عقارب الساعة في الحارات الضيقة والمزارع البعيدة والمصانع، ولم تلحظ الشرائح الاجتماعية المليونية أي فرق على الأرض.. لقد غيروا طاقم الحكم الذي يجلس في القصر، ولكن من سيغير واقعهم؟ نزلوا لإسقاط النظام، ولكن ماذا بعد إسقاط النظام؟ الشباب الذين شكلوا رأس الحربة في المظاهرات والاعتصامات كانوا أقرب إلى الاختفاء بعد الثورة في عالمهم الافتراضي، فهم أصلا غير متعارفين وليس لديهم تنظيم، ناهيك عن انعدام خبرتهم السياسية بما يوازي حجم الفعل الجبار الذي أنجزوه والذي فوجئ به الجميع دون استثناء. كان الاحتقان والبطالة والفساد والشعور باليأس والإحباط أهم العوامل التي وقفت خلف تلك الملايين الهادرة التي نزلت إلى الشوارع يوم 25 يناير 2011 وحولت نظام حسني مبارك إلى نظام من ورق، ودباباته وأسلحته إلى خردة من حديد. بعد انجلاء الغبار عن المظاهرات المليونية، لم تكن في الساحة السياسية المصرية، وكنتيجة مباشرة لاختفاء الفكرة الواضحة عن شكل النظام ما بعد الثورة، أيُّ قيادات ثورية منظمة تعرف ماذا تريده. فقد تمخضت هذه الساحة المضطربة عن قطبين فاعلين لخوض الصراع صعودا إلى السلطة، وكان من أولى ثمرات الديمقراطية في الانتخابات صعود الجهة السياسية الوحيدة المتمرسة والمنظمة مسبقا منذ عقود -ماليا واجتماعيا وسياسيا- إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، ونقصد بها التيار الإسلامي بقيادة تنظيم الإخوان المسلمين. وهذه الموجة، في كل الأحوال، لم تكن مقتصرة على مصر الثورة، بل غطت معظم سماء الربيع العربي نتيجة الفشل والعجز التاريخي للأحزاب والتيارات الإيديولوجية القومية واليسارية التي انكفأت ولم يبق منها سوى هياكل فارغة، في حين اضطر العسكر تحت ضغط حرارة الثورة ومفهوم الديمقراطية الجديدة إلى العودة إلى ثكناتهم ولو حتى حين. الانقلاب ثورة مزيفة لعله من الإنصاف القول بأن مدة سنة واحدة، هي فترة حكم الإخوان، غير كافية بكل المقاييس الموضوعية للحكم عليها كتجربة، ولا توازي حجم رد الفعل المبالغ فيه الذي حصل يوم 30 يونيو الماضي وما أعقبه من إجراءات وصلت حد الانقلاب العسكري. وفي الحقيقة، هناك عدة عوامل محلية وأخرى خارجية إقليمية ودولية تضافرت لإنتاج ما جرى يوم 30 يونيو؛ فمحليا، قوى الثورة المضادة وقد استفاقت من صدمتها عادت هذه المرة لتنظم صفوفها متسترة خلف نياشين ومعاطف العسكر المتربص أصلا للانقضاض على السلطة. والحال أنها كانت تستغل شعور الإخوان بنشوة النصر ومحاولتهم المتعجلة تحقيق أقصى استثمار للفوز من خلال الاستحواذ والهيمنة على كافة مفاصل الدولة وإعطائهم إشارات ليست في محلها، سواء للتشبث بالسلطة عبر رفض الانتخابات المبكرة التي كانت بمثابة مخرج في حينها أو على مستوى صياغة الدستور الجديد ومحاولة فرض بعض نصوصه أو التدخل في مسار الحياة الثقافية العريقة في مصر، مما جعلها هدفا سهلا لقوى الثورة المضادة للتحريض ضدها تحت ذريعة «أخونة» أو «أسلمة» مصر، الأمر الذي أثار حفيظة الكثير من الشرائح المترقبة أو الأقليات الدينية المتخوفة، والتي لم تكن مستعدة بعد لمثل هذا التغيير الإيديولوجي لبلد عرف عبر تاريخه المعاصر بعلمانيته وكونه مسرحا للثقافة والانفتاح رغم تصاعد موجة التوجهات الإسلامية. لم يكن العامل الخارجي أقل تأثيرا في ما آلت إليه الأمور يوم 30 يونيو وما أعقبه، فقد انعكس التنافس والصراع الإقليمي، وتحديدا العربي، مع أو ضد حكم الإخوان على تعميق الشرخ المصري. ومن الواضح أن ضوءا أخضر أعطي للعسكر لحسم الأمور مبكرا بدليل الصمت العربي والدولي الذي أعقب الإطاحة بأول حكومة في تاريخ مصر الحديث منتخبة شرعيا وعبر صناديق الاقتراع. شكلت لحظة 30 يونيو مفترقا خطيرا في انقسام المجتمع المصري واختلاط المفاهيم والقناعات التي أدت إلى عملية استقطاب خطيرة قد تضع مستقبل مصر في مهب الريح، في ظل تمسك كل طرف وقطب بقناعاته ومفهومه لمعنى الثورة والانقلاب. الخسائر غير المنظورة لا شك في أن حزمة الإجراءات التي أعقبت 30 يونيو أخذت أسلوبا فظا عبر التنكيل المفرط بقيادات الإخوان والتشهير بهم واجتثاث جميع مؤسساتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي قد يعزز من مكانتهم ويزيد من رصيدهم في نفوس الملايين من الشباب الذي توفر لديه قسوة هذه الإجراءات ما يمكن أن نطلق عليه «مظلومية الإخوان» التي قد تستغل من الأجنحة الإسلامية المتطرفة في عدم جدوى العمل السياسي السلمي، مما قد يدفع بهذا الشباب المتحمس في اتجاه التطرف كرد فعل غير منظور قد يعبر عن نفسه بأشكال مختلفة قد يكون أحدها ممارسة العنف في ظل بيئة إقليمية مواتية. قبل الولوج إلى احتمالات المشهد المصري، لا بد من حساب خسائر هذا المشهد جراء الاهتزازات العنيفة التي عصفت بأسسه ومرتكزاته نتيجة اختلاط الرؤى والقناعات، وفي ظل الانقسامات الحادة في المجتمع. ويمكن تلخيص هذه الخسائر كما يلي: أولا، تم الإجهاز والانقضاض على أول تجربة حقيقية في تاريخ مصر المعاصر، حيث مارس الشعب من خلالها الديمقراطية بمعنى الانتخابات النزيهة عبر صناديق الاقتراع، وكان من الأجدر الحفاظ على هذه التجربة الفتية وإجراء التغيير المنشود عبر صناديق الاقتراع، وفي أسوإ الاحتمالات الضغط من أجل انتخابات مبكرة عوضا عن انقضاض العسكر وعودة مصر إلى المربع الأول؛ ثانيا، اهتزاز سمعة المؤسسة القضائية المصرية العريقة من خلال سرعة انصياعها لتوفير الغطاء القانوني للتغيير العسكري، ولاسيما إجراءات اعتقال الرئيس وبقية قيادات الدولة واجتثاث كافة أذرع تنظيم الإخوان المسلمين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما يثير أكثر من علامة استفهام؛ ثالثا، انعدام الثقة المستقبلية في استقرار أي نظام سياسي مصري قادم في ظل تدخل المؤسسة العسكرية الذي افتقر إلى مبادئ الشرعية والمشروعية والذي فجر انقساما حادا في المجتمع المصري وشعورا قاسيا بالمظلومية لدى شرائح لا يمكن الاستهانة بها، سياسيا ودينيا واجتماعيا. مشاهد مصر المحتملة بالنظر إلى ما سبق، يمكن التنبؤ بالمسارات المحتملة التي قد تتخذها الأزمة في مصر عبر المشاهد المحتملة التالية: الأول، تكرار السيناريو الجزائري الذي أعقب انقلاب العسكر على الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد فوزها عام 1991 في انتخابات ديمقراطية، وهو الانقلاب الذي أدخل البلاد في دوامة من العنف ضربت البلاد عشر سنوات وذهب ضحيتها قرابة مائتي ألف ضحية؛ الثاني، المصالحة والحل التوفيقي الذي يمكن أن يتم من خلال العفو عن قيادات الإخوان وعدم حظر نشاطهم السياسي المعلن أسوة ببقية التنظيمات، وانتظار الانتخابات كي تفرز إرادة الشعب المصري والقبول بما تتمخض عنه صناديق الاقتراع. هذا السيناريو رغم أنه يشكل المخرج الوحيد الذي قد يحول دون دخول مصر إلى نفق الفوضى، فإنه يبدو مستبعدا في ظل الإجراءات الحالية المتسارعة التي تتخذها السلطات لقمع واجتثاث هذا التنظيم العريق وقاعدته الشعبية العريضة؛ الثالث، الانزلاق تدريجيا إلى مستنقع الفوضى وحافة الانهيار الاقتصادي من خلال استنزاف الجيش المصري ومؤسسات الدولة نتيجة تنامي عمل التنظيمات الإسلامية «المتطرفة» التي ستجد في قواعد الإخوان المسلمين -التي ستلجأ حتما إلى العمل السري تحت الأرض- حاضنة مثالية وملائمة لنقل عمل هذه التنظيمات المسلحة وتشكيل بؤر لا يمكن السيطرة عليها، في ظل ثورة التقنيات الحديثة والاتصالات وخصوصية جغرافيا انتشار قواعد التنظيم في محافظات الصعيد وسيناء. خالد المعيني