المثقفون الذين يقرؤون بالعربية والإنجليزية معاً يفضلون العودة إلى كتب الراحل إدوارد سعيد في اللغة «الأصلية» التي كتبها بها، أي الإنجليزية. يقولون إن استيعاب أفكاره في تلك اللغة أيسر وأدق. المثل الأبرز في هذا السياق كتابه «الاستشراق». قيل كلام كثير عن الترجمة العربية التي وضعها كمال أبو ديب للكتاب. وأبو ديب ناقد ومفكر ضليع في اللغتين العربية والإنجليزية، وهو بذل جهداً كبيراً جداً في اجتراح التراكيب اللغوية، فضلاً عن مقابلة المصطلحات والمفاهيم، في اللغة العربية ليقدم «استشراق» إدوارد سعيد للقراء العرب. لكن حتى القراء المتمكنين من اللغة والمعرفة شكوا من صعوبة الترجمة، وكثيرون منهم وجدوا العودة إلى النص الإنجليزي حلاً أكثر ملاءمة. إني أسوق هذا المثال على سبيل التدليل ليس إلا، فالأمر هنا لا يتصل بإدوارد سعيد وحده، ولا بترجمة كمال أبو ديب وحدها، وإنما يتمحور حول فكرة الترجمة بحد ذاتها. الأصل في الكتابة هو إيراد المعنى، من يكتب يرغب في قول معنى من المعاني لمن سيقرأ له ما كتب، وطالما كان المعنى هو الأساس، فإنه من الممكن قول هذا المعنى بأكثر من لغة. المعنى المُقال في لغةٍ من اللغات يمكن أن «يترجم» فيقال في لغة أخرى، بكلمات أخرى لا تشبه أبداً، أو لا تشبه بالضرورة، الكلمات التي قيل فيها المعنى أول مرة، لكنها، رغم ذلك، قادرة على حمل هذا المعنى أو نقله أو قوله. لكن هذا الأمر لا يخلو من الصعوبات، فطالما كان الهدف هو قول الشيء نفسه بلغة أخرى، فإن ثمة صعوبات عدة يجب تذليلها حتى يتحقق ذلك. ولو لم تكن الترجمة لما قدر لكبار الفلاسفة والأدباء أن يعيشوا قروناً. إن فيلسوفاً مثل أرسطو اليوناني، الذي كتب بالإغريقية القديمة، ما كان سيصير معروفاً لدينا نحن الذين نعيش اليوم في القرن الحادي والعشرين لو أنه لم يترجم إلى السريانية، ثم إلى العربية، ثم إلى اللاتينية، ثم إلى سواها من اللغات، أي أنه ظل باقياً لأنه صار «ينطق» بلغات أخرى غير لغته الإغريقية، التي لم تعد أهم اللغات في عالم اليوم، وكان سينتهي الأمر بأفكاره لو قدر لها ألا تكون أكثر من مخطوطات عتيقة تحفظ في أحد متاحف أثينا، يراها اليونانيون، ولكن لا يقرؤونها. لكن الكلام أو النص إذ ينقل من لغة إلى أخرى لا يعود هو نفسه بالحرفية التي كان عليها قبل نقله. وحتى لم حمل المعنى نفسه فإنه يكتسب ظلال معانٍ جديدة تضيفها عليه اللغة الجديدة التي نقل إليها، محكومة في ذلك بالبناء الخاص بها، الذي لا يحرف المعنى وإنما يغنيه بروحٍ جديدة. ولعل هذا ما سعى إليه كمال أبو ديب حين نقل «الاستشراق»، أي اشتقاق تراكيب ومفردات من العربية تحمل غنى الكتاب وثراء معارف مؤلفه الأصلي. النص حتى لو لم يترجم، فإنه في نطاق اللغة التي كتب بها يحتمل تأويلات مختلفة، فما بالنا إذن إذا نقل إلى لغة أو لغات أخرى، لها سياقاتها المختلفة، وبنيتها الخاصة بها، فضلاً عما تحمله من دلالات قد لا تتوفر في اللغة التي ترجم منها هذا النص أول مرة. حسن مدن كاتب من البحرين