إن القول بالرجوع إلى تراثنا العلمي لما يزخر به من مصطلحات علمية وفنية بات ضروريا أكثر من أي وقت مضى، كما يقول الدكتور فايز الداية: «نحن نرجح الآراء التي تدعو إلى النظرة المتأملة في التراث العلمي لاستخراج ما يفيد منه وهو ليس بالقليل، بل هو كثير ومدهش في أحوال عديدة، ونؤكد أنه جزء من التكوين الحضاري ينبه إلى الدقة في الاستعمالات العصرية، وهاهنا نقطة هامة في وظيفة معجمنا، ذلك أن كل ما يشتمل عليه من اصطلاحات يصلح للتداول في العلوم المعاصرة المدونة في العربية الفصحى، فالتعريب وعلم المصطلح يغنيان بالمادة المعرفية، وكذلك بالقياس على المنهج المتبع عند علماء العرب قديما في اشتقاق الاصطلاحات الحديثة، وهذا أمر متجدد والخطوة الأساسية فيه هي إتقان العلماء واللغويين للأداة اللغوية، وأبعادها الدلالية بمرونة تتيح العطاء المستمر « وإذا كان خصوم تعريب العلوم يتذرعون بحجج واهية مفادها أن لغة العرب لا تملك من الثراء المعجمي ما يسعفها لنقل العلم ونشره بين أبناء جلدتنا، فإن زعمهم هذا مردود عليه من أكثر من ناحية: *أولا كيف تأتى لأسلافنا نقل علوم الإغريق وغيرهم إلى لغة الضاد التي لم يكن لها سابق عهد بما كانت تعج به تلك العلوم من مصطلحات فلسفية وعلمية دقيقة مستعصية ؟ ومن تم هل مكمن الخلل في اللغة أم أن ذلك يعود بالأساس إلى تقاعسنا نحن العرب عن اقتفاء أثر من سبقنا؟ *ثانيا لو تأملنا معجم المصطلحات في الفرنسية أو الإنجليزية أو غيرها من اللغات لوجدنا أن أغلب هذه المصطلحات لم تكن تعرفها تلك اللغات، بل إنها كونتها وأبدعتها اشتقاقا ونحتا من أصول قديمة سواء من اللاتينية أو من اليونانية أو من اللغات الأوربية الحية (ومن العربية كذلك !). ومن يجرؤ على القول بأن اللغة العربية أقل قدرة على الابتكار والخلق وهي اللغة الاشتقاقية بامتياز ومهملها أكثر من مستعملها؟ علينا إذن أن نقوم بعملية أركيولوجية للمصطلح التراثي العربي كما اقترح الدكتور عابد الجابري. فموضوع المصطلح كما يقول هذا الباحث «موضوع قديم لأنه يرجع إلى بدايات تشكيل الثقافة العربية العالمة(...) ونحن نعرف أن عصر التدوين الذي لم تستغرق المرحلة الحاسمة فيه أكثر من نصف قرن في العصر العباسي الأول، قد شهد قيام علوم عربية خالصة لم تكن موجودة من قبل، كما ترجمت في القرن نفسه» علوم الأوائل « علوم اليونان وفلسفتهم. فكانت الحاجة ماسة إلى وضع «المصطلح « لهذه العلوم جميعا، الأصلية منها والمترجمة. لقد دعت الحاجة إلى ابتكار جهاز مفاهيمي واصطلاحي لكل من النحو والعروض والفقه وأصوله و»علم الكلام» والبلاغة والنقد الأدبي والتصوف من جهة، وإلى ترجمة وتعريب اصطلاحات العلوم المنقولة عن الأوائل من طب وتنجيم وكيمياء وفلسفة وطبيعيات ورياضيات الخ من جهة أخرى». إن وضعنا اليوم ليس بأسوأ من وضع أجدادنا وقتذاك، إذ لم تكن تتوافر لهم وسائل الاتصال المتطورة والمعلوميات والمعاجم الإلكترونية الخ... ومع ذلك فإنهم استطاعوا رفع التحدي وحققوا ما عجزنا أن نحقق نحن اليوم بما لدينا من إمكانيات.»لقد كانت البداية من الصفر في جميع العلوم، وكانت الحاجة إلى المصطلح ملحة بشكل لا يمكن تصوره إلا إذا نحن استحضرنا في أذهاننا أن الأمر يتعلق بعلوم ظهرت كلها فجأة في وقت واحد، متزاحمة متداخلة، متنافسة متصارعة». فالعرب يعيشون اليوم حالة شبيهة بوضعية البدء من الصفر إن لم نقل أقل من الصفر، إذ أضحوا متخلفين غاية التخلف عما تزخر به الحضارة الغربية منذ أوائل القرن العشرين من طفرات وتطورات مطردة في مجالات العلوم والتقنيات، وما يستتبع ذلك من غزو اصطلاحي ومفهومي لم تستطع مجامعنا العلمية واللغوية مسايرته ولا السيطرة عليه. قد يقول قائل إن السبب يعود إلى طول فترة السبات التي عرفتها أمتنا العربية أو ما اصطلح على تسميته في أدبيات الفكر العربي ب»عصر الانحطاط». إلا أننا في هذا المقام لا نريد البتة الخوض في التماس الأعذار أو اقتناص المُسَوّغات والذرائع بقدر ما نريد التنبيه إلى مدى إمكانية الإفادة مما يزخر به تراثنا العربي والإسلامي من ثراء وغنى، سواء فيما يتعلق بالمصطلح أو بمنهجية وضعه وبطرق صياغته. والعربية كما أسلفنا لغة اشتقاقية بخلاف الفرنسية التي هي لغة سلسلية، ومعنى ذلك أنها أطوع من غيرها في قابليتها للتوالد من الداخل والاغتناء المستمر من الداخل بالمصطلحات والمفاهيم المستحدثة. هذا ناهيك عما يوفره المجاز من سبل للتنقل بين الحقول الدلالية والمفهومية داخل المعجم الواحد. ولا بد عند الحديث عن الاشتقاق من الإشارة إلى الطريقة المتميزة التي سلكها واضعو اللغة في البداية . يقول السيوطي في هذا الباب نقلا عن ابن جني:»أعلم أن واضع اللغة لما أراد صوغها وترتيب أحوالها هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تَصوُّره وُجوه جُمَلها وتفاصيلَها؛ فعلم أنه لا بد من رفض ما شنع تأليفه منها(...) واقتضت الضرورة رفض البعض واستعمال البعض ...» وحتى يشتد بيان فكرته، يسوق السيوطي مثال الخليل بن أحمد الفراهيدي في جمعه للغة. فهذا العالم الفذ كان قد سلك طريقة خاصة في» جمع اللغة العربية، إذ افترض جميع أنواع التراكيب الممكن صياغتها في الأبجدية العربية، ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية، فأبقى على ما وجد العرب تستعمله وهو»المستعمل» وأهمل ما لم تستعمله وهو «المهمل». فإذا انطلقنا من هذا الطرح فإننا لا محالة سنخلص إلى نتيجة منطقية مفادها أن اللغة العربية مازالت تتوفر على عدد هائل من الصيغ الصرفية التي لم يتم بعد استثمارها وتوظيفها، هذا بالإضافة إلى أن هناك عددا كبيرا من المصطلحات التي طواها النسيان والتي تنتظر أن نبعث فيها الحياة من جديد. بنداود المرزاقي باحث تربوي