أحب كثيرا برامج الحيوانات، وأحب كثيرا أن أرى الفريسة تقع بين أنياب الأسد أو الفهد، ليس تشفيا فيها، بل لأعاين ردة فعلها، وغالبا ما يكون رد الفعل هو الاستسلام التام، ثم شيئا فشيئا يتمزق لحم الفريسة إربا وتنتهي الحكاية. مرة، شاهدت شريطا مختلفا. كان قطيع الثيران يسير جنب الوادي، ثم هجمت أسود ولبؤات كثيرة، فحدث ما يحدث دائما، أي أن وقع ثور واحد في قبضة الأسود ثم انصرفت باقي الثيران وكأن شيئا لم يحدث.. فماذا سيضير قطيعا من مئات أو آلاف الثيران إذا نقص منه واحد؟ لن يحدث شيء على الإطلاق، فالأسود ستشبع وتعيش، والثيران لن تنقرض. لكن هذه المرة، حدث شيء مختلف تماما، لقد اصطاد الأسد ثورا وأمسك برقبته، وانصرفت باقي الثيران كما تفعل عادة.. لكن عندما بدا وكأن كل شيء انتهى، وأن الوليمة صارت كاملة، حدث ما لم يتوقعه أحد، وعادت باقي الثيران غاضبة جدا، وأحاطت بالأسد المفترس، وصارت تتناوب على نطحه، وقاومت كثيرا من أجل إنقاذ «أخيها»، فاضطر الأسد المرعوب إلى ترك عنق الثور الضحية، ثم رفع ثور هائج الأسد بقرنيه في الهوا، فهرب المفترس وعاشت الضحية.. ويا لها من معجزة ! أفكر في المشاهد الحيوانية وأقارنها بنا، نحن الصحافيين، فنحن مجرد قرابين يذبحوننا في أية مناسبة أو يفترسوننا أحياء، لكنهم لا يدركون أننا نقدم أنفسنا قربانا من أجل الآخرين. ونحن، في نظرهم، مجرد كلاب تنبح، لكنهم لا يدركون أننا ننبح ضد الخطر، ولولا نباحنا لتحولت هذه البلاد إلى غابة حقيقية من زمان. عندما وصلت «النّوبة» إلى زميلنا علي أنوزلا ودخل كماشة السجن مطاردا بتلك التهم الثقيلة، فعلنا ما تفعله الثيران عادة، وانصرفنا إلى حالنا وتركنا الأسد يفترس علي، فماذا يضيرنا، نحن قطيع الصحافيين، أن ينقص منا واحد، حتى لو كان من حجم صحافي رائع إنسانيا مثل علي، ومحترف مهنيا مثل علي، وملتزم أخلاقيا ومبدئيا مثل علي، وجريء وغير مهادن مثل علي. علي، الذي انتظرنا أن يعتق نفسه بنفسه من الافتراس، لا تزال الأنياب الحادة ممسكة بعنقه، ونحن الصحافيون لم نصل حتى درجة الوفاء التي تمارسها الثيران في الأدغال ونحاول، على الأقل، أن نضايق المفترس بقليل من النطح لنعتق زميلا عزيزا ووفيا من مصير الافتراس. في هذه البلاد، من الأفضل لنا ألا ننبح ضد الخطر، ومن الأفضل ألا نعض اللص، ومن الأفضل أن نفعل ما تفعله الكلاب الوفية، أي أن نصمت ونحن نرى اللصوص يقتربون، ونبلع ألسننا ونحن نرى الخطر يداهمنا، ونلحس أحذية سادتنا حتى يقولوا عنا إننا أوفياء، وأننا صحافيون يخلصون للوطن. حين أرى علي لا يزال خلف القضبان ونحن لا نملك من أجله إلا الصراخ، وحتى الهمس أحيانا، أتذكر مملكة الأدغال حيث تقوم الحيوانات بجهد أفضل من أجل بعضها البعض، بينما نحن نزم شفاهنا أسفا ونقول ألا ليت علي يكون بيننا هذا العيد، وألا ليت العقل يسود قليلا فنرحم بعضنا البعض من آفة الإذلال، وألا ليتنا نفهم أن الزمن الذي يعيشه العالم ليس الزمن الذي نعيشه نحن، فلا نزال نصر على أن نبقى في عصورنا الوسطى الكالحة، بينما العالم يتقدم سريعا نحو المستقبل. حين أفكر في وضع صديقنا علي خلف القضبان مطاردا بتهم لم يكن يتخيلها هو نفسه، أتذكر كل أولئك الذين نهبوا هذه البلاد وخربوها، وأتذكر كل أولئك الفاسدين الذين حولوا السياسة والمسؤولية إلى مجرد «كوميسيون»، وأستعيد في مخيلتي كل الفضائح العظمى التي مرت علينا مرور الكرام، مع أن روائحها لو زكمت أنف شعب آخر غيرنا لقتلته. في كل مقالات علي أنوزلا نكهة صدق كبير ورائحة وفاء هادر للمهنة وللوطن، لكن جرعة الوفاء إن فاضت فإن الآخرين يستعملونها للتخوين، لذلك من الضروري ألا يحب أحد وطنه أكثر من اللازم، لأنه سيصبح خائنا، ومن الضروري أن يحب المواطن وطنه كما يحب امرأة عابرة، أن يسليها وتسليه ثم يتوادعا عند مفترق الطرق. علي كتب آخر مقال له ودخل السجن، عنوان المقال كان هو «السعودية.. الخطر الداهم»، وها هو الخطر الداهم أحدق فعلا.. ولك ولنا الله يا علي.