الأكيد أن الحاجة إلى الأطر ذات المؤهلات المتميزة في بعض المجالات وغيابها عن بعض أو جل الإدارات العمومية قد جعلا المشرع في القانون الإداري يصوغ إطارا قانونيا يقنن شروط تعاقد إدارة عمومية مع أي شخص ذاتي أو معنوي تستجيب مؤهلاته لحاجيات محددة للإدارة العمومية خلال مدة زمنية معينة؛ فالتعاقد مع الإدارة يقوم، في الأصل، على أساس توفر خبرة لدى الشخص الذاتي تحمل قيمة مضافة إلى الإدارة المعنية ليس بإمكان الأشخاص الذاتيين الموجودين في ذات الإدارة العمومية تقديمها. وتمنح للمتعاقد معه صفة مستشار أو مكلف بمهمة مقابل أتعاب أو أجر تحدد قيمته ومدة إنجاز موضوع العقد وفق مقتضيات هذا الأخير، أي العقد. إلا أن واقع تدبير الموارد البشرية بالإدارة العمومية بات يطرح سؤالا جوهريا قد يرهن في اتجاه آخر حاضر ومستقبل الوظيفة العمومية من زاوية الإدماج والأجرة والترقية والتقاعد (...) وبمعنى آخر، هل يمكننا القول بأن منظومة الوظيفة العمومية في المغرب تتجه نحو الخوصصة؟ عدم قانونية بعض الصيغ التعاقدية الحالية في سلك الوظيفة العمومية تشهد عدة إدارات عمومية إدماجا متزايدا لعدة أطر عبر إبرام عقد عمل، خصوصا وأن طبيعة عمل المتعاقد مع الإدارة العمومية قد انزاحت عن أصلها وباتت تحايلا على وزارة المالية والوظيفة العمومية من أجل التوظيف، وباتت بالتالي غير قانونية وفاقدة لكل مشروعية، ذلك أن المتعاقد معه لم يعد ملزما بتقديم سيرة ذاتية تثبت خبرته ولا أهليته للقيام بمهام ليس في مقدور الكفاءات الموجودة داخل الإدارة القيام بها؛ بل الأغرب من ذلك أن نجد الإدارة العمومية تدرجه ضمن هيكلة مواردها البشرية النظامية، وتمنحه مرتبة ومسؤولية تجعل الموظفين النظاميين تحت إمرته فيصبح هو من يحدد أعمالهم ومن يقيمها ومن يوقع على كل ما يتعلق بالموظفين النظاميين. والواقع أن هؤلاء لا يسمح قانون الوظيفة العمومية بأن يكونوا تحت إمرة المتعاقد معه لكون هذا الأخير يعتبر مستشارا أو مكلفا بمهمة لمدة زمنية محددة وليست له صفة القارية والانتماء إلى ذات الإدارة. وهذا الواقع يعكس تداخلا سلبيا وغير قانوني بين وضعية الموظف النظامي ووضعية المتعاقد؛ بل يجد الموظف النظامي نفسه يعيش انتكاسة من جراء عدم ترقيته إلى منصب كان ليكون من حقه إلا أنه منح بطريقة غير قانونية لإطار متعاقد؛ فإقحام المتعاقدين ذوي المهام الخاصة ضمن الهيكلة الخاصة بالموظفين النظاميين أمر غير قانوني وتبذير للمال العام وإقصاء لفرص ترقية الموظفين النظاميين واحتقارا لمؤهلاتهم.. كيف يعقل أن يُدمج إطار عن طريق التعاقد وهو فاقد لأية خبرة سابقة ويُمنح منصبَ تدبيرِ مديريةٍ أو قسمٍ يشتغل به موظفون نظاميون لهم من المؤهلات والخبرة ما يفوق ما يتوفر عليه المتعاقد "المحظوظ"؟ كيف يعقل أن يتم في نفس الإدارة ولنفس المهام تحويل موظف من وضعيته النظامية إلى وضعية المتعاقد مع الحفاظ على وضعيته النظامية تلك؟ فذات الموظف كان ولا يزال يقوم بنفس المهام، ما تغير هو وضعيته الإدارية، وخصوصا المالية التي تنتقل من 10000 درهم أو 12000 درهم إلى 25000 درهم. وعليه، فالتعاقد هنا يخرج عن إطاره القانوني ليصبح امتيازا ممنوحا في إطار مزاجي لتدبير الموارد البشرية لموظفي الإدارة العمومية ولينجم عنه توتر سلبي بين أطر الإدارة العمومية وخلط بين القوانين المؤطرة للمتعاقد وتلك المؤطرة للموظف العمومي النظامي. ويبقى السؤال مطروحا حول دور اللجان متساوية الأعضاء والفعاليات النقابية والهيئات المعنية بحقوق الموظف العمومي، وخصوصا دور المجلس الأعلى للحسابات في رصد هذا النوع من تبذير المال العام. أسباب تزايد نسبة الأطر المتعاقدة - إذا كانت حكومة بنكيران تزعم أن الإدارة العمومية لم تعد لها قابلية لاستيعاب أطر جديدة، بدون مبررات موضوعية علمية، علاوة على ترويجها لاحتمال استهداف الموظف العمومي، إما كيفيا عبر محاولة تخفيض عدد الموظفين بنسبة 10 في المائة أو نوعيا عبر تخفيض أجور الموظفين، فحاضر الإدماج في الوظيفة العمومية يظل مفتوحا على التعاقد الانتهازي الذي من شأنه خلق ارتباك في تدبير الموارد البشرية بسبب تداخل القوانين بين الوضعيتين، علاوة على التشجنات والحقد بين موظفي الإدارة العمومية واللامساواة بخصوص فرص الشغل بين الأطر المغربية؛ - تماطل الحكومة في إنزال قانون خاص بالوظيفة العمومية واكتفاؤها باتخاذ إجراءات أحادية دون إشراك باقي الفاعلين المعنيين، واكتفاؤها كذلك بتأطير الوظيفة العمومية وفق قانون أبان عن عجز كبير في حسن تدبير المرفق العمومي وموارده البشرية؛ - بروز مؤسسات عمومية ذات وضعية شبه خاصة، جعلتها تتبنى قانونا تنظيميا خاصا بها وخاصا بتدبير مواردها البشرية، الأمر الذي جعل التوظيف بهذه المؤسسات يزيغ عن مقتضيات الوظيفة العمومية بدعوى خصوصية المؤسسة وكون إدارتها العامة لها كافة الصلاحيات. إلا أنه وجب التذكير بأنه لا صلاحيات بدون سند وتعليل قانوني لكون القانون هو من سيؤطر العمل وهو من سيمكن من المحاسبة والمقاضاة. وكيف لهذه المؤسسات العمومية أن تعتبر قوانينها الأساسية استثنائية أو خاصة في حين أنه أمام القضاء الإداري تجرى عليها مسطرة قانون الوظيفة العمومية؟ فتدبير الموارد البشرية بهذه المؤسسات العمومية هو من أفرغ التعاقد الفعلي من محتواه القانوني والعملي وجعل من التعاقد بالتالي امتيازا مؤسسا على الزبونية والقرابة عوض أن يؤسسه على التميز وفق المؤهلات. هل تتجه الوظيفة العمومية نحو تجاوز طابعها النظامي مقابل إرساء أسس تعميم التعاقد؟ أولا، التوجه الإداري العام يسير حاليا نحو التقليص من أعداد الموظفين النظاميين، لا لسبب سوى لأن كتلة أجورهم تثقل ميزانية الدولة (وهذا أمر مردود عليه جملة وتفصيلا)، بل أكثر من ذلك لقد بات هناك خطاب يزعم بعدم مردودية الموظف، وهذا توجه خطير ونعت سلبي يمس بكرامة الموظف ويحاول طمس جوهر إشكالية الوظيفة العمومية الذي يكمن في العجز البين لإصلاح منظومة الوظيفة العمومية، لأن في إصلاحها سيغيب الاستثناءات وسيغيب التدبير المزاجي للإدارة العمومية؛ ثانيا، السبيل الذي يعرفه النظام التربوي والتعليمي في المغرب -والذي بات متميزا بالزحف المتواصل للتعليم الخصوصي المكلف، ابتداء من التعليم الأولي إلى التعليم العالي وإعطاء الأهمية لشواهد بعض المؤسسات التعليمية الخاصة من خلال إدماج حاملي هذه الشواهد الخصوصية ضمن مؤسسات الدولة عبر عقود عمل- قد يترجم على امتداد العشر سنوات المقبلة إلى تعميم الإدماج بعقود عمل ضمن الوظيفة العمومية مع إعطاء الأولوية لحاملي شواهد المؤسسات الخصوصية. ولقد كانت مبادرة الوزير الوردي الرامية إلى إدماج خريجي المعاهد الخاصة ضمن وزارة الصحة إشارة بينة إلى سلك هذا التوجه. لا إصلاح للوظيفة العمومية على حساب الموظف والحالة هذه، يبقى تعاقد الإدارة العمومية مع الأشخاص الذاتيين في وضعيته الحالية وفي معظم حالاته مفرغا من مضمونه الأصلي وامتيازا لثلة من المحظوظين لكونه غير مؤسس على تميز في المؤهلات، وتجاوزا لقانون الوظيفة العمومية لكون المتعاقد لا يجب أن يتخذ وضعية الموظف النظامي، كما أن وضعية الموظف النظامي لا يجب أن تصبح تعاقدية بنفس المؤسسة ولنفس المهمة إلا إذا توافقنا على كون هذه الصيغة إنما هي تحايل على صرف على ميزانية الدولة وحيفة ممارس على الموظفين النظاميين لأنه يحرمهم من حقهم في الترقية إلى هذه المناصب التي بات من المؤكد لديهم أنها مخصصة للتعاقد وما ينطوي عليه من امتيازات. عجيب ومخيب للآمال أن يكون تفكير فعاليات الحكومة المغربية يتجه نحو التخلص من الموظفين بحجة أن رواتبهم المعيشية -التي لا تغني ولا تسمن من جوع- باتت تثقل ميزانية الدولة (والحال أن العكس هو الصحيح)، هذا بعد أن بنيت وتطورت هذه المؤسسات والإدارات كلها، منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، بفضل مجهودات وصبر ونضالات... هذه الشريحة ممن ينتجون ثروة البلاد. عجيب، كذلك، أنه كلما عجزت حكومة ما على إصلاح أي ورش، كان الحائط الصغير، أي الموظف والعامل و(...)، هو المستهدف وكأن الأثرياء غير معنيين. ربما تناست الحكومة توجيهات ملك البلاد بخصوص ضرورة إصلاح منظومة الأجور ومنظومة الوظيفة العمومية وإبراز طبقة متوسطة واسعة تكون محرك الاقتصاد الوطني، فالثراء الفاحش لدى البعض قد جعله يفضل الاستغناء عن أجوره وحتى عن منازله الوظيفية.. عجيب أن يتم الإصلاح على حساب الموظف لفائدة معالي الوزير. ربما كان هذا هو العدل من منظور حكومتنا المحترمة حبيب عنون باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية