نعم العربية، لغةً وثقافة، وأنطق بها هكذا، تماما كما يسمي، مثلا لا حصرا، سكان أمريكا الجنوبية قارتهم (ذات 18 بلدا و600 مليون نسمة) باللاتينية، نسبة إلى اللغة الإيبيرية، أي البرتغالية في البرازيل والإسبانية في كل بلدان القارة الأخرى... ولغتنا تلك، كما نجرب وندرك، تتعرض لهجمات وتحرشات متناسجة الأهداف والمرامي، متنوعة الوسائل والأساليب، وتعيش محنة تفاقمت مظاهرها واحتدت منذ أكثر من عقد. وهذا بعض من وجوهها على سبيل التمثيل فقط: 1 - رمزت إلى أمثولة أمريكا اللاتينية، وأعلم أنها لن تفيد شيئا محترفي الغلو والتعصب الحاملين للغة العربية (وبالتالي لثقافتها، قديما وحديثا) كراهية وحقدا شديدين لا مبرر لهما، عقلا وتاريخا، إلى حد أن مجرد النطق باسمها يبعثهم على التقزز والنفور بدعوى -هذا ما يشيعونه- أنها لغة الوهابيين والسلفيين وتنظيم القاعدة والمجموعات "الإسلامية" الإرهابية، إلخ. والتناقض العجيب المضحك أنهم، في هجوماتهم الشرسة عليها، لا يجدون بديلا عن استعمالها والنهل من مقدراتها البيانية والبلاغية، فيكون الواحد منهم كمن يضرب مرضعته أو يأكل من صحن ويبصق فيه. وأقصد بهذه الفئة الغلاة الاستئصاليين من أعداء الأمازيغية الحميميين (ولكل حركة، ولو كانت مشروعة، متطرفوها)، وهؤلاء يركبون القضية عوجا، ومن حيث لا يدرون ينسفونها نسفا وينفّرون الناس منها، فينسحب عليهم المثل السائر: حاميها حراميها... 2 - وجه آخر من الهجمة يمثله كتاب فرانكفون مستأسدون متغولون. وأدب هؤلاء لم يعد يسمى، كما بالأمس، الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، بل "الأدب المغربي" وحسب، كأنما الفرنسية رُسّمت ولو بدون إعلان دستوري أو مؤسساتي؛ فالعربية، في زعمهم المريض، لغة مقدسة (!) وبالتالي لغة الرقابة والرقابة الذاتية لا تهب، في تصويرهم الأمرض، حرية الخيال والتعبير الفردي التي هي خصيصة اللغات الغربية، وهكذا يوهمون شرائح السذج باقتدارهم على الكتابة بتلك اللغة، لكنهم، بسبب موانعها وكوابحها، يفضلون الكتابة بالأخرى، هذا مع أنهم يوجدون على بعد سنوات ضوئية من اللغة العربية وثقافتها. ومثل ذلك الكلام العبثي نقرؤه عند كتاب مثل بن جلون وأتباعه الأصاغر سنا وآخرين من درجات دنيا، ولا ينمّ إلا عن عداء مترسخ يفشونه قولا وفعلا كلما استبد بهم منطق النرجسية والتبرير الذاتي، من جهة، وشعور عنجهي بالتفوق ناتج عن جهل مركب وسوء طوية ضالع، من جهة أخرى، ولا تنفع معهم في شيء إعادة التذكير بأن القرآن كرونولوجيا نزل بالعربية ولم تنزل به، وأن هاته خلقت وطورت، قبل الإسلام وطوال حقبه المديدة، آدابا دنيوية وفردية خارج دائرة القدسي، وأحيانا ضد مصرفي سلطته، وهي ما نقرؤه في المعلقات وشعر الصعاليك والمولدين، وفي شتى أغراض شعر الغزل والخمريات، كما في الأزجال والموشحات، هذا فضلا عما يطالعنا في مصنفات "أدب الدنيا" و"الإمتاع والمؤانسة" والتصوف... إلخ. أما في الأدب العربي الحديث فحدث ولا حرج مع أدباء مبدعين في شتى الأجناس، منهم، على سبيل المثال الدال، محمد شكري الذي قرأ بن جلون سيرته الذاتية "الخبز الحافي" واحتك بها لكونه ترجمها إلى الفرنسية، فلم يرجع عن ترهاته حول قدسية اللغة العربية ولم يخجل أو يعتذر. 3 - وجه آخر من تلك الهجمة بدا في المغرب خصيصا مع الدعوة إلى استبدال العربية الفصيحة بالعامية الدارجة بدءا من أول سلك في المنظومة التعليمية، كما لو أن هذا قائم في بلدان العالم أو أن العامية ليست مشتقة من الفصحى الوسطى ومتفرعة عنها؛ وتلك دعوة فاسدة، علميا وتربويا، يروّج لها نفر من الصحافيين والإشهاريين واللهجويين، مدعومة من طرف لوبيات متنفذة. فتراهم يخبطون في الأمر خبط عشواء، ويهرفون بما لا يعرفون، لا يهمهم في ذلك التاريخ كخزان تجارب وعبر، ولا منطوقات الدساتير، ولا إعمال مناهج البحث المتزن الرصين. وحتى كتاب فرانكفون انساقوا وراء تيار اللامعرفة هذا للإسهام في الإجهاز على العربية بدعوى أنها لغة كلاسيكية، أي ميتة، ولغة المهزومين (كما يصرح بعضهم علنا) أو للخلوص إلى القول بأن la darija هي "لغتهم الأم"، مع أن لا أحد منهم يكتب بها بل لا أحد يحسنها حقا؛ وهذا كله يجهر به هؤلاء وأولئك في المقالات والإعلام السمعي-البصري، كما لو أنه لا توجد دراسات ومعاجم كثيرة تبرهن، بالدليل المادي، على صلات القرابة والرتق الكثيرة، والمجهولة عموما، بين طبقتي العربية، الفصيحة والدارجة، أو كما لو أن الفرنسيين، مثلا، في حياتهم اليومية والأسرية يتكلمون لغة موليير وفولتير ومالارمي وسان-جون بيرس، أو ليست لهم لهجاتهم العامية ولغاتهم الإقليمية (الكورسيكية والبروتونية والألزاسية والباسكية...) فمن في فرنسا، مثلا، طالب يوما بإحلال عاميتها الدارجة محل لغتها الفصحى؟ لا أحد. لكن في مغرب المغربات نجد قوما يدعون إلى ما سقناه، بل يذهبون إلى حد رفع توصيات في هذا الشأن إلى دوائر مسؤولة، وذلك بقصد ترسيم الدارجة في المنظومة التعليمية، ولِمَ لا دسترتها، ظنا منهم أن معضلة التعليم ومكمن دائه يقومان في عوامل، من أهمها التدريس بما يسمونه العربية الكلاسيكية، بيد أن هذه اللغة، في الحقيقة، إنما هي لغة فصيحة وسطى، لها، ككل لغات العالم، نحوُها وصرفُها وتركيبتُها وتراثُها، وهي بالتالي، مشكولة أو لا، أسهل بكثير من الدارجة التي بسبب عاميتها وشفويتها تصبح شديدة الصعوبة ما إن تعرض مكتوبةً على القراءة، وهذا ما اعترف به القيمون على أسبوعية "نيشان"، المحتجبة، التي كانت ذات خط دارجي فاشل... نعوذ بالعقل والمعرفة من تخبطات أناس مشعوذين جهلة، لا فائدة ترجى من لغو توصياتهم وهرائها، وتظل صفرية الوقع والمردود في بحثنا عن تحسين منظومتنا التعليمية وإصلاحها، كما عن تقوية لغة هي لغة ثقافة وحضارة عريقتين، ساهمنا وطنيا وإقليميا في بنائها وتأثيلها مدة قرون عدة، وتضعها اليونسكو، بمعياري التمثيلية والتداول، في الرتبة الرابعة في العالم بعد الصينية والإنجليزية والإسبانية. فما بال صاحب العيوشيات يستميت في خرجاته الهستيرية الفاشلة، لن تكون آخرها خرجته ضد لغتنا وثقافتها، ولا سابقتها "الديمقراطية دابا"؛ فالأحرى به أن يعي صغر حجمه، ويترك شؤون البلاد الكيرى لأهاليها وعارفيها، إذ ذلك أفيد لوكالته الإشهارية وأسلم، وكذلك لصحته العقلية. تلك عناصر في الموضوع من بين أخرى سالبة لا يتسع المجال لذكرها، لكنها لا تخفى عن الراصد الفهيم؛ وما لا يخفى عنه أكثر يتمثل في حالات واقعة مرئية، من أبرزها: بقاء دوريات حبرا على ورق، كان يوقّع عليها وزراء أوّل سابقون ويرسلونها إلى مختلف المرافق والمؤسسات العمومية لإلزامها باستخدام اللغة العربية، تفعيلا لرسميتها المدسترة المواكبة لتاريخ المغرب المستقبل. وقد استنكر الأستاذ الجليل محمد شفيق هذا الوضع المزري وما أسماه "التفرنس" الكاسح، وذلك في مقدمة معجمه القيّم المفيد "الدارجة المغربية.. مجال توارد بين الأمازيغية والعربية". ثم إن الوضع نفسه استفحل أكثر حين أخذنا، منذ بضع سنوات، نشاهد بأعيننا المجردة الانتشار الممنهج المهول في غالبية الفضاءات المدينية للحرف الفرنسي واستفراده، دون الحرف العربي، بأسماء المحلات التجارية، من مقاهٍ ومطاعم ومخازن وصالونات... وغيرها. وقد تفشت هذه الظاهرة الغريبة المقلقة في مجمل المدن الكبرى كما في المتوسطة والصغرى؛ وليس في الشوارع والرحاب العصرية وحدها، بل تعدتها إلى الأحياء الشعبية القديمة أيضا. وقد تستفسر بعضَ أصحاب تلك المحلات عن سبب ذلك، فمن قائل إن المغاربة يقرؤون الفرنسية، ومن متذرع بكون الدِّيزاين بالفرنسية لا يترك مكانا (بلاصة) في معلقته للحرف العربي، ومن معلل فعله بتقليد أصحابه في المهنة. أما إذا خاطبت في الشأن نفسه مسؤولين جماعيين وبرلمانيين، وحتى حكوميين، في مشروعية الترخيص الإداري بذلك، فلا تلقى منهم إلا أجوبة خاملة مستنيمة أو كلمات مستنكرة عابرة، أشبه ما تكون بكلمات المهوّنين، بل المغلوبين على أمرهم. أما زمر المثقفين وجمعياتهم فإن سوادهم، أمام الشأن المذكور وسواه من الشؤون الحساسة الخطرة، يظل متمسكا بسكوت عنه مطبقٍ ضاجّ، والفساد الثقافي واللغوي غير منظور ولا مفكر فيه. ولسنا ندري حتّام يسترسل سباتهم المديد، وما السبيل إلى تحريك سواكنهم وضمائرهم، كيما يكفوا عن صراعاتهم الصغيرة ويلتزموا بإعادة ترسيخ ثقافة القيم والأساسيات وشيوعها. إذا كانت اللغة العربية إرثا حضاريا تملكناه واستثمرنا فيه منذ قرون عدة، أدبيا وفكريا وعلميا، واشتققنا منه عاميتنا السارية في جهات بلادنا الأربع، وإذا كانت تلك اللغة من مقومات هويتنا التاريخية، ودسترناها منذ فجر الاستقلال، فالواجب الجماعي والعيني اليوم يقضي بحمايتها وصيانتها من حملات التهجين والتبخيس، وذلك بدءا بصياغة مشروع قانون تعرضه الحكومة على السلطة التشريعية كيما يصبح، في أجل مقبول، ساري الوقع والمفعول في الإدارات والمؤسسات العمومية والفضاءات التجارية وحتى في بعض القطاعات الحكومية والمندوبيات، ولمَ لا حتى في القطاع الخاص أيضا، وذلك تأكيدا لتنزيل دسترتها القديمة منذ 7 دجنبر 1962، وإلا فإن مسألة الهوية وحمايتها، قانونيا ولغويا وثقافيا، ستكون محط موضع ريبة وتشكك، من عواقبه الوخيمة، لا قدر الله، أن يضر بنوابضها الذاتية ومقدراتنا الإبداعية وأنسجتنا التواصلية. وهذا ما لا نبتغيه لبلادنا ولا نرضاه... بنسالم حِمِّيش