عبر التاريخ، المشاريع القائمة على الأشخاص تنتهي بنهاية الشخص المركزي أو تنشطر إلى فرق ومجموعات تائهة تتحلق بدورها حول أشخاص آخرين... في أول مؤتمر وطني له بعث حزب الأصالة والمعاصرة إلى وسائل الإعلام برسالة خطيرة تثير الكثير من التخوف على مستقبل حرية الصحافة في البلد، وتبعث الكثير من الشك والريبة حول مدى تجذر قيمة الديموقراطية والإيمان بالتعددية السياسية والفكرية لدى مسؤولي الحزب الجديد.. يتعلق الأمر بمنع صحافيي كل من جرائد «الاتحاد الاشتراكي» و«التجديد» و«بيان اليوم» من تغطية أشغال المؤتمر، ومن القيام بواجبهم المهني كصحافيين معنيين بنقل الأخبار إلى القراء، وبدون شك فإن الحدث الذي كان سيحظى بمتابعة وسائل الإعلام هو المؤتمر التأسيسي للحزب الجديد.. منع هؤلاء الصحافيين من القيام بواجبهم جاء بناء على قرار صادر عن اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني الأول، فهو إذن قرار مفكر فيه وصادر عن هيئة مسؤولة تعي بشكل جيد أبعاد القرارات التي تتخذها في سياق الإعداد لأول خروج مؤسساتي لحزب تحوم حوله العديد من الشبهات.. القرار المتخذ جاء كرد فعل على المواقف النقدية التي عبرت عنها هذه الصحف إزاء الحزب، وعلى بعض المواقف التي اتخذها بعض القياديين في التنظيمات السياسية التي تعبر عنها هذه الصحف، فجريدة «الاتحاد الاشتراكي» هي لسان حال «حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» الذي قاد المعارضة السياسية في المغرب لمدة طويلة، وهو الذي شكك في بيان للمكتب السياسي في النوايا التي تقف وراء ما سماه ب«الوافد الجديد على الحياة السياسية»، وجريدة «التجديد» هي لسان «حركة التوحيد والإصلاح» الشريك الموضوعي لحزب العدالة والتنمية، والذي سبق على لسان قيادييه أن انتقد فؤاد عالي الهمة بعدما تهجم هذا الأخير على الحزب في أول خروج إعلامي له في القناة الثانية بعد الانتخابات التشريعية ل7 شتنبر، اضطرت معه إدارة القناة بتعليمات عليا إلى المبادرة إلى إعطاء الحزب حق الرد بعد يومين، أما «بيان اليوم» فإن «جريمتها» تكمن في إجرائها لاستجواب صحافي مع عبد الله القادري الذي خرج من الاندماج المعلن عنه، ورفع دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية بالرباط لاسترجاع حزبه بعدما اتضحت له، كما عبر عن ذلك، النوايا الحقيقية لمن يقفون وراء هذه المبادرة... خطورة القرار المتخذ هي أنه صادر عن خلفية نظرية لا تؤمن بالاختلاف وبالنقد وبالصراع السلمي بين الأفكار والمواقف والتوجهات، ومما يزكي هذا الطرح هو حرص قياديي الحزب الجديد على الاكتفاء بدعوة الأحزاب التي تتفق معهم في الرأي ولم يسبق لها أن عبرت عن أي اختلاف يذكر مع «حزب السي فؤاد» وعن المواقف الصادرة عنه في الآونة الأخيرة... طبعا، لا يهمنا الحديث عن هذه الأحزاب وعن طبيعة نشأتها التي تلتقي مع نشأة «الوافد الجديد» في الكثير من النقاط، وعلى رأسها أن هذه الأحزاب تأسست بإيعاز من الدولة لمواجهة أحزاب الحركة الوطنية التي كانت في المعارضة آنذاك.. لكن خطورة هذا القرار تكمن أيضا في كونه يتطابق بشكل موضوعي مع بعض التصورات الموجودة داخل بعض أجهزة الدولة، والتي ما فتئت تعبر عن انزعاجها من منسوب الانفتاح الإعلامي الموجود في المغرب، ومن درجة التعددية(المتحكم فيها) على المستوى السياسي.. من حقنا إذن أن نعبر عن تخوفات باتت مشروعة من أداة سياسية أصبحت جزءا من المشهد الحزبي الذي يطمح إلى أن يلعب أدوارا سياسية في المستقبل.. هذه التخوفات ليست نابعة من قوة هذا الحزب على المستوى الميداني، فقد كشفت الانتخابات الجزئية الأخيرة عن محدودية قدرته على تعبئة الناس من أجل المشاركة السياسية، وعن ضعف أدائه الميداني في الساحة... ولكن التخوفات باتت مشروعة من تحالف بات واضحا بين «مبعوث الدولة إلى الحقل الحزبي» وبين جزء من اليسار أضحى متشبعا بثقافة انتهازية واضحة ولم يعش تجربة العمل الحزبي بشكل حقيقي، ومازال متشبعا بثقافة الإقصاء ولم يتمرس على ثقافة الاختلاف والتعايش مع المنافسين ويضمر عداء فطريا للمخالفين، وبين جزء من أصحاب الأموال والإقطاع يتصورون أن نجاح جزء من الطبقة السياسية في الانتخابات القادمة يهدد مصالحهم الاقتصادية ويمس بمستقبل ثرواتهم التي حصلوا عليها بصفقات مشبوهة... لقد قال حسن بنعدي، الأمين العام السابق، إن الحزب لا يبشر بمذهب سياسي جديد...وهنا مبعث الخطورة في هذه التجربة، وهي أنها ليست صادرة عن رؤية فكرية صلبة يمكن أن تحاكم على أساسها، ولا تتوفر على مرجعية سياسية حقيقية تحكم سلوكها السياسي... إن قرار منع جزء من الصحافة الحزبية المخالفة من تغطية أشغال المؤتمر يضمر ثقافة سياسية سلطوية ترفض النقد والاختلاف...ولذلك فقد كان من الملفت أن يتعرض حزب التقدم والاشتراكية لضغوطات قوية من جهات مقربة من الوافد الجديد على خلفية ما نشرته جريدته الحزبية ، «اضطر» معها الديوان السياسي إلى إصدار بيان يتبرأ فيه مما نشر في «بيان اليوم» ويحمل المسؤولية لهيئة التحرير، وهو موقف غير مفهوم من حزب عريق أسسه المرحوم علي يعتة! الحزب الجديد يرفض أن ينعت بأنه حزب الدولة، لكن العديد من المؤشرات تدل على ارتباطه ببعض الدوائر النافذة داخل أجهزة الدولة، ليس أقلها السرعة الرهيبة في التحول إلى أكبر قوة برلمانية في المجلسين.... طبعا مثل هذه الظواهر هي إفراز لطبيعة النظام السلطوي في المغرب، والذي يحتاج في كل مرحلة إلى خلق ديناميكية سياسية، ولو كانت وهمية، لأنها تستجيب لاحتياجات من يوجد في أعلى قمة هرم الدولة، ولذلك فإن من حضروا في المؤتمر الأخير لاحظوا المكانة الاعتبارية الكبيرة التي يحظى بها «السي فؤاد» والإقبال «الكبير» للمؤتمرين على شخصه من أجل السلام عليه أو أخذ صورة إلى جانبه أو استعطافه من أجل نيل خدمات معينة... إن هذا الوضع الرمزي والمعنوي رسم صورة لدى الرأي العام عن السيد فؤاد عالي الهمة، وهي صورة الرجل الذي يتمتع بنفوذ واضح مستمد من قربه من الملك، لكن في نفس الوقت صورة الرجل البراغماتي الذي يسعى لخدمة مصالحه ومصالح أصدقائه عن طريق الاستثمار في السياسة وتوظيف جميع الإمكانات المسموح بها من طرف الدولة لتحقيق مجموعة من الأهداف التي لم تعد خافية على أحد ومنها: التشويش على الإسلاميين في الانتخابات القادمة وخلق قطب سياسي كبير للتأثير في مجريات الحياة السياسية في المرحلة القادمة... لكن هذا النموذج يعاني من بعض الاختلالات البنيوية: أولها أن هذا الحزب ليس تعبيرا عن حاجة اجتماعية وسياسية عميقة ولا يندرج ضمن صيرورة نضالية طبيعية تعبر عن تطلعات فئات اجتماعية معينة، بقدر ما نلاحظ أن الملتفين حول هذا «المشروع» لا يجمعهم أي رابط إيديولوجي أو مذهبي وتحرك معظمهم نزعات القرب من السلطة ورعاية مصالحهم الخاصة، ثانيا، هذا « المشروع» قائم على شخص محوري ، سرعان ما سيفقد جاذبيته بمجرد ما يفقد سر قوته ونفوذه، وعبر التاريخ، المشاريع القائمة على الأشخاص تنتهي بنهاية الشخص المركزي أو تنشطر إلى فرق ومجموعات تائهة تتحلق بدورها حول أشخاص آخرين... لكن المثير في المؤتمر الأخير هو نبض الشعب الذي كان حاضرا داخل المؤتمر حينما عبر في شعارات قوية عن تعاطفه مع حركة المقاومة الإسلامية حماس مقاطعا كلمة نائب السفير الفلسطيني الذي اقتصر على تحية السلطة الفلسطينية.. واضطر لتحية باقي الفصائل تحت ضغط الشعارات المؤيدة لحماس... هذه الحركة المقاومة التي سبق للسيد فؤاد عالي الهمة أن وصفها في يوم ما بأنها حركة إرهابية!!