تعددت الأوصاف التي أطلقها الباحثون في علم الاجتماع والدراسات الإسلامية على نتائج معهد الاستطلاعات الأمريكي «غالوب». الأخير وضع المغاربة في المرتبة الثالثة للشعوب الأكثر تدينا في العالم، بعد شعوب بنغلاديش ومصر... «المساء» تفك شفرات التقرير وتعيد ترتيب خلاصاته. حاول إيريك لوران جس نبض الحسن الثاني حول المساحة المسموح ل»الإسلاميين» المغاربة باللعب فيها داخل الحقل السياسي، وذلك في حديث مطول معه اختير له كعنوان «أسئلة الإسلام». الملك الراحل أجاب عن سؤال الصحافي الفرنسي قائلا: «نحن لا ننشد من خلال ديننا الكمال، بل نستمد منه التقوى التي تصلنا بالباري تعالى، ونستوحي منه الأخلاقيات التي تعطي لديمقراطيتنا اتزانها على المستويين الإنساني والاجتماعي. وتلك هي الضمانات التي نتحمل مسؤولية الوفاء بها بصفتنا أميرا للمؤمنين وملكا للمغاربة جميعا...». «الإسلام المغربي» يتسم بالاعتدال والوسطية، طرح يزكيه معظم علماء الدين والباحثين في مجال الدراسات الإسلامية والاجتماعية، لأن نمط الاعتقاد المغربي متميز عن باقي الأنماط المتبعة في الأقطار الإسلامية الأخرى، وهو ما خلصت إليه نتائج استطلاع حديث أجراه معهد «غالوب» الأمريكي الشهير الذي جاء فيه أن «المغاربة يعدون ثالث شعوب العالم الأكثر تدينا». 98 في المائة من المغاربة المستجوبين في الاستطلاع أجابوا ب»نعم» حول حضور الدين، بقوة، في حياتهم اليومية، متقدمين بذلك على العديد من الشعوب الإسلامية والإفريقية. مصر احتلت المركز الأول في نتائج الاستطلاع بنسبة 100 في المائة وبنجلاديش صنفت ثانية بنسبة 99 في المائة. الداعية عبد الباري الزمزمي يذهب إلى أن «الحقيقة الصحيحة» هي أن المغاربة لهم الدين في مكانة الاحترام والتقديس، ورغم أن كثيرا منهم لا يلتزمون بأركان الإسلام، مثلا الصلاة، فإنك تلقى في قرارة أنفسهم احتراما وتعظيما وتقديسا للدين. ويرى الخطيب السابق لمسجد الحمراء بالدار البيضاء، في تصريح ل»المساء»، أن التدين هو الالتزام بأحكام الدين، وبالنسبة إلى الشعب المغربي، وحتى لغيره من الشعوب، لا تصل نسبة المتدينين منه 70 في المائة، لذلك فإذا ما كان معهد «غالوب» يقصد بالتدين ممارسة الشعائر الدينية بأكملها فإن الرقم المعلن عنه، وهو 98 في المائة، يبقى «مبالغا فيه»، على حد تعبير الزمزمي. تناقضات المسلمين المغاربة استطلاع معهد «غالوب» الأمريكي استمر ثلاث سنوات (2006، 2007، 2008) وشمل عينات من 143 بلدا وإقليما حول العالم، وحددت العينة في ألف شخص لا تقل أعمارهم عن 18 سنة، طُرحت عليهم أسئلة، على اختلاف أديانهم، حول ما إذا كان الدين يحتل جزءا هاما من حياتهم اليومية أم لا. المغاربة المستجوبون أكدوا أنهم على ارتباط دائم بدينهم، وأن حياتهم اليومية ومعاملاتهم يحكمها وازع ديني يبصم حضوره بقوة. نتائج الاستطلاع تعد مفاجِئة بالنظر إلى التناقضات الكبيرة في سلوكيات «المسلم المغربي» الذي يفضل القيام بفرائض دينية عن أخرى. الزمزمي يؤكد أن التناقض يتضح بالخصوص في إيلاء المغاربة أهمية فائقة للقيام بفريضة الصيام ولا يهتمون بالصلاة، التي هي أوجب وأهم من الصيام، ومصدر هذا الاختلاف في «ترتيب الفرائض لدى المغاربة» أرجعه الداعية إلى إشاعة مسألة العقاب الدنيوي، بين الناس، إلى من لا يقوم بصوم رمضان، عملا بالمقولة الشعبية الشهيرة :»رمضان كيخرج فاللي مكيصوموش». وذهب الزمزمي إلى حد القول بأن المغربي يتوجه إلى القيام بالصلاة حين «يطعن في السن». الباحث الاجتماعي نورالدين الزاهي، يتفق في بعض من جوانب تحليل الداعية الزمزمي حول التدين لدى المغاربة، وذلك من خلال نمط الاعتقاد الديني للمغاربة الذي يصل إلى درجة تشبث وجداني كبير، ويمكن القول بأن علاقة المغاربة بالدين هي جزء ليس فقط من هويتهم بل من الوعي الجماعي، لكن درجة تشبثهم بالإسلام تحتضن مفارقات عديدة. فبنفس الدرجة التي يتشبث فيها المغاربة بشكل وجداني بدينهم، يقول الزاهي، بنفس الدرجة، وربما أكثر، يبتعدون فيها عن الإسلام، ويظهر ذلك في تفاصيل حياتهم اليومية. يتذكر الزاهي أن أحد الباحثين الأمريكيين قدم إلى المغرب، قبل سنوات قليلة، قصد إجراء استطلاع حول موضوع «علاقة تلاميذ الثانويات بالإسلام»، وبعد عمل ميداني مكثف، استخلص صديقه الأمريكي مجموعة من الملاحظات أهمها يكمن في كونه حينما يسأل تلميذا مغربيا عن علاقته بالإسلام يجيبه بالإيجاب، وحين يطرح السؤال عما إذا كان يقوم بأداء فريضة الصلاة يكون الجواب عادة بالنفي، أما بخصوص صيام رمضان، فليس منهم من قال إنه لا يقوم بذلك وإنه لا يرى في كل من لا يصومه «كافرا». لكن الباحث الأمريكي حدث وأن وجد عددا ممن استجوبهم يدخنون لفافات الحشيش في زاوية قريبة من الثانوية، وجلهم اعتبروا في إفاداتهم له بأن من لم يصم رمضان فهو «كافر». وبالتالي، يقول الزاهي، تظهر تناقضات المسلمين المغاربة في كل مرة يتم فيها تعميق البحث معهم حول القضية الدينية، إذ يُلاحظ أن علاقتهم بالصلاة والحج والزكاة والشهادة «باردة نوعا ما، وهذه مفارقة أخرى، ونمط العلاقة على تراتبية الفرائض المؤسسة للدين ليست متساوية عند المغاربة. «إسلام مغربي» طُقوسي مظاهر تدين المغاربة حبلى بالتناقضات تميز خصوصية «إسلامية مغربية»، للوقوف عليها يكفي فقط التأمل في سلوكيات أفراد المجتمع المغربي المسلم اليومية. هذه الخصوصية نابعة، في رأي الزاهي، من كون «الإسلام المغربي» إسلاما طقوسيا والأدلة على ذلك موجودة على امتداد التاريخ الحديث. كيف ذلك؟، لأن موقع رمضان داخل ذاكرة المغاربة لا يستقيه من طبيعته كفريضة إسلامية ولكن كطقس ديني واجتماعي، يجيب الزاهي ويستطرد قائلا: «ونفس الأمر بالنسبة إلى الأعياد الدينية وأيضا إلى يوم الجمعة داخل باقي أيام الأسبوع، بمعنى أن كل ما يتخذ طابعا طقوسيا جماعيا احتفاليا، يجد صدى عند المغاربة، يوضح الزاهي، قبل أن يضيف: «ولأن الصلاة طقس جماعي، ومسموح بها كطقس فردي، فإنها لا تشغل نفس الموقع لدى المسلمين المغاربة». عزالدين العلام، صاحب مؤلف «الآداب السلطانية»، ذهب إلى حد التأكيد على أنه في حال اعتماد معهد «غالوب» الأمريكي في نتائج استطلاعه على معيار صوم شهر رمضان فسيكون المغاربة على رأس الشعوب الأكثر تدينا، لأن هذا الشهر الفضيل بالنسبة إلى المغاربة مقدس، على خلاف معظم الدول العربية، في حين لا تجد فريضة الصلاة اهتماما كبيرا لدى المسلمين المغاربة. في نفس السياق، يميز حقل القداسة في المغرب كونه لا يتعارض مع المجال الدنيوي، على خلاف ما يوجد في كثير من الأقطار الأخرى. في «الإسلام المغربي» هناك المقدس والمدنس، إضافة إلى المجال الدنيوي، ويلاحظ المرء الكثير من الظواهر، كثرة اللحى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وانتشار اللباس الأفغاني و»السلفي» في سنوات أخرى. الزاهي لاحظ أنه في الأيام الأخيرة انتشرت ظاهرة جديدة تتعلق بالسيارات التي تحمل على ظهرها عبارات من قبيل «لا تنس ذكر الله»، والمفارقة، في نظر الأستاذ الباحث، تكمن في إيجاد هذا النوع من السيارات إلى جانب أخرى تحمل صور الزعيم الثوري «تشي غيفارا»، واستنبط الباحث من خلال هذه التجليات أن اليومي المغربي يشهد تحولات وإيقاعات دينية مختلفة. وهو ما يقتسمه العلام مع الباحث الزاهي، إذ يؤكد أن مظاهر التدين تتنوع معتبرا أن ظاهرة السيارات الحاملة لعبارات دينية، تندرج في خانة المظاهر «الجديدة» لتدين المغاربة التي تبقى متعددة ومختلفة، لم يحددها معهد «غالوب» الأمريكي في نتائج استطلاعه. ما الذي يهم «غالوب» في علاقة المغاربة بالدين؟ ما هي خلفيات استطلاع معهد «غالوب» الأمريكي ذي الشهرة العالمية من خلال البحث الذي قام به في المغرب؟ هل مثل هذه الاستطلاعات، التي تهم الشأن الديني، تحكمها هواجس سياسية أو أمنية؟ أم إن الأمر يتعلق ببحوث استبقاقية.. تستبق أمرا ما؟... هذه الأسئلة طرحتها «المساء» على مختلف الباحثين والمهتمين بالشأن الديني الذين اتصلتا بهم قصد فك شفرات التقرير وماوراءه. الداعية الزمزمي ذهب إلى حد وصف مسألة القيام بهذا التقرير ب»البارومتر» لقياس مدى قابلية المغاربة لحملات التنصير. من جانبه، يرى محمد الصغير جنجار، مساعد مدير مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدارالبيضاء ومدير مجلة «مقدمات»، أن معطيات مثل هذه الاستطلاعات تؤخذ بعين الاعتبار لدراسة منظومة القيم بمجتمع ما، وهي لا تترجم بالضرورة حقيقة المجتمع. وهو ما ذهب إليه الباحث الزاهي الذي أكد أن القصد العام من الاستطلاع هو فهم المجتمع المغربي، ويرى أن قارئ نتيجة تقرير «غالوب» التي يظهر فيها أن المغاربة ثالث أكثر الشعوب تدينا في العالم قد يعتقد بأن المغرب قد يصير بؤرة للإرهاب، مع الحملة التي يواجهها الإسلام في العالم، أو أن الخارطة الدينية للمغرب مهتزة إلى درجة قد تكون لها تبعات على المجتمع، وهذه أمور غير صحيحة، يقول جنجار، لأن تاريخ علاقة المغاربة بالدين أكثر حصانة. الأرقام لا تعكس دائما الحقيقة، وما يتوصل إليه من نتائج من خلال استطلاعات الرأي يبقى متعلقا بالعينة المستجوبة في ارتباط مع الخصوصيات المحيطة بها من قبيل جغرافيتها وأصولها...الباحثون والمهتمون بالشأن الديني الذين اتصلت بهم «المساء» أجمعوا على أن نتائج الاستطلاع لا تكون، عادة، دقيقة بل الأمر يتعلق بنظرة تقريبية إلى الموضوع الذي أجري حوله الإحصاء. السوسيولوجيون في العالم يتعاملون بحذر مع أرقام استطلاعات الٍرأي، فبالنسبة إلى ما جاء به معهد الاستطلاعات الشهير «غالوب»، فالنتائج يكتنفها الكثير من الغموض لأنه لم يحدد طبيعة التدين الذي تم قصده. الأكيد في نتائج استطلاع «غالوب» أن معظم المغاربة يعتنقون الإسلام، لكنها لم تحدد أي نوع من الإسلام، هل تعني السلفي أم الطُرقي الصوفي؟ لم تأت نتائج استطلاع المعهد بدراسة كافية حول تدين المغاربة، لأن علاقتهم بالإسلام متمايزة في الزمان والمكان، ولكنها فتحت النقاش من جديد حول خصوصية تدين المجتمع ب»الإسلام المغربي» المتسم بالوسطية والاعتدال.