كان ضروريا أن يشهر عميد الأمن المتقاعد بالمحمدية بندقيته في وجه جيرانه ويطلق رصاصة نحو بطن أحدهم ويرسله في حالة خطيرة إلى المستعجلات، لكي تتحرك ولاية الأمن أخيرا وترسل من يعتقل «صعصع» زمانه هذا الذي «نوض» الشيب الأخضر في رؤوس سكان الحي. كان ضروريا أن يسيل الدم لكي يحضر رجال الأمن ويستعملوا القنابل المسيلة للدموع لاعتقال العميد السابق. رغم أن السكان تعبوا من وضع الشكايات المسيلة للدموع لدى ولاية الأمن وفي مكتب وكيل الملك. السؤال الذي يجب طرحه الآن ليس هو لماذا أطلق العميد السابق النار على جاره، ولكن لماذا لم تتحرك ولاية الأمن ووكيل الملك لاعتقال هذا الشخص الذي يستحق أن يدخل كتاب غنينس للأرقام القياسية في عدد الشكايات المسجلة ضده. والتحقيق الحقيقي في هذه الجريمة لا يجب أن يشمل الجاني وحده، وإنما كل المصالح الأمنية والقضائية بالمحمدية والتي تواطأت بصمتها عن تحريك الشكايات التي وضعت ضده طوال السنوات الأخيرة. إذا كان هذا العميد السابق «شوية لاباس» كما يشاع، فعلى السلطات المحلية أن تودعه مستشفى الأمراض العقلية وأن تحمي أرواح المواطنين من حماقاته. وإذا كان من هواة قاعدة «هبل تربح» التي دأب على اتبعاها المسؤولون وأبناؤهم في هذه البلاد كلما اقترفوا حماقة، فيجب إحالته على خبرة طبية للتأكد من سلامته العقلية. ولو أننا جميعا نعرف «خروب بلادنا» ونعرف كيف تعطى شواهد الخبرة الطبية وكم تصل أسعارها. مسؤولية ولاية الأمن ووكيل الملك فيما وقع بالمحمدية تتجاوز مجرد إغماض العين عن تحريك شكايات ضد جار مزعج، وإنما تصل إلى مستوى التساهل مع عميد سابق يعاني من سلوك اجتماعي مرضي ويتوفر في بيته على سلاح ناري. مشكلة الأمن في المغرب أنه لا يتحرك إلا عندما يسيل الدم. إلى درجة أصبح معها سؤال «واش كاين الدم» جوابا أوتوماتيكيا لكل من يطلب الإغاثة. وكأننا أمام فرقة من فرق «عيساوة» التي «تتحير» على الدماء، وليس أمام فرقة من فرق الأمن يجب أن تتدخل لكي تحقن الدماء. عندما تتدخل جهات نافذة لكي تحمي بعض الوجهاء وأبناءهم من تحريك الشكايات التي توضع ضدهم، تجهل هذه الجهات أنها لا تعرض مصالح المواطنين للعبث، بل إنها قد تعرض حياتهم للخطر. عندما أغمض الأمن والقضاء ومفتشو الشغل عيونهم عن رؤية كل الوقفات الاحتجاجية التي نظمها مستخدمو ليلى بن الصديق للمطالبة برواتبهم، فكأنهم كانوا يزكون ما تقوم به ويشجعونها على المزيد. إلى اليوم الذي ركبت رأسها، ومعه سيارتها «الجاغوار» ودهست عظام تسعة من مستخدميها الذين كانوا يطالبون بأجورهم فأصبحوا يطالبون فقط بتجبير عظامهم. ومع ذلك تم الإفراج عنها لكي تتابع في حالة سراح. ولولا الألطاف الإلهية لكانت أزهقت أرواح هؤلاء المستخدمين. ولو أن الدولة حركت بحثا في شكاياتهم السابقة بالشركة وطبقت القانون، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. وأيضا لما وجدت ليلى بن الصديق نفسها اليوم تعيش بدون كلبها الوفي «كارلوس» الذي اختطفته جهات تابعة للمستخدمين لكي تتفاوض به على الأجور المتوقفة للمستخدمين. فقد فطن هؤلاء المستخدمون إلى المكانة الكبيرة التي يحتلها الكلب «كارلوس» في قلب صاحبته، ولذلك فكروا في نصب كمين للكانيش واختطافه واستعماله كورقة ضغط لانتزاع حقوقهم. وبعض «الألبة» عندنا في المغرب يضعون كلابهم في مراتب الأبناء. بحيث يستطيعون تحمل فراق أبنائهم ولا يستطيعون تحمل فراق كلابهم. وأعرف مسؤولا كبيرا في الرباط لديه رخصة لاستغلال سيارة أجرة يخصص «الروصيطة» الشهرية التي يأتيه بها سائق التاكسي التعيس كميزانية أكل لكلبه الدوبرمان. ووحدها «الكفتة» المستوردة التي يعيش عليها الكلب كل شهر تكفي لكي تغذي عائلة متوسطة الدخل بأسرها. وأمثال هؤلاء لا يتحدث عنهم المندوب السامي للتخطيط الذي يطلب من المغاربة أن يستهلكوا منتجات وطنية، مع أنه يعرف أن سكانا كثيرين في الحي الراقي الذي يعيش فيه، يصرفون راتب موظف في السلم العاشر كل شهر على تغذية كلابهم وقططهم السمينة بالمواد الغذائية الحيوانية المستوردة. فقطط هؤلاء البورجوازيين لا تحسن صيد الفئران والصراصير مثل قطط «المزاليط». ببساطة لأن الفئران والصراصير لا توجد في مثل هذه الأحياء الراقية، بل توجد فقط في الأحياء التي يسكنها خمسة وتسعون بالمائة من المغاربة. لو أن ليلى بن الصديق حلت مشكلتها مع مستخدميها وطبقت بنود قانون الشغل، لما اضطرت هؤلاء إلى إدخال الكلب «كارلوس» في هذه المعمعة. كما أنه لو تم سحب رخصة مرور ابن خليهن ولد الرشيد رئيس المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء، بسبب الحوادث التي ارتكب في السابق بسيارات المجلس، لما كان تسبب في قتل مواطن بالرباط قبل يومين كان عائدا إلى بيته فوجد المسكين نفسه في ثلاجة الموتى بالمستشفى. وطبعا كان ضروريا أن يوضع في المحضر أن المخطئ هو المواطن سائق الدراجة النارية وليس ابن رئيس المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء الذي كان يقود سيارة من سيارات المجلس الرباعية الدفع. فالقاعدة المغربية تقول إذا التقى «البخوش» مع أبناء «الكافيار» فاحذف «البخوش» بدون مناقشة. يبدو أننا في المغرب أصبحنا بحاجة إلى تأليف كتاب يضم بين دفتيه السير الذاتية لأبناء المسؤولين والوزراء السابقين الذين دهسوا بسياراتهم العشرات من أبناء الشعب في شوارع المدن. بدءا من أبناء الوزير العنصر، ومرورا بمارية ابنة الوزير السابق بنجلون، وابن والي كلميم، وانتهاء بصديق الكولونيل التريكي، وابن خليهن ولد الرشيد، وليلى بن الصديق ابنة المحجوب شفاه الله. وما يجمع بين أبناء «الفشوش» هؤلاء هو كونهم استفادوا من رحمة العدالة بهم، ومن رأفة محاضر الأمن والدرك. فخرجوا من حوادثهم كما تخرج الشعرة من العجين، وسجلاتهم العدلية أنظف من وسادة رضيع. إن واحدة من مشكلات المغرب العويصة هي أن القانون لا يسري على الجميع. ولو طبق القانون في حق العميد المتقاعد وتم تحريك الشكايات التي وضعت ضده من طرف جيرانه، لما وصلنا إلى إطلاق النار. ولو تم تحريك شكايات المستخدمين من طرف وزارة الشغل لما وصلنا إلى محاولة قتل هؤلاء عن طريق دهسهم بالسيارة. باختصار، لو تم تطبيق القانون على الجميع وبدون الخضوع للتدخلات القادمة من الرباط، لما تجرأ أبناء «الفشوش» على استرخاص دماء المغاربة على الطرقات. التحقيق الذي يجب أن تباشره الآن مصالح الأمن هو لماذا تغاضت كل تلك المصالح المختصة عن سماع شكاوي المواطنين. في رواية «رجال تحت الشمس» يختم غسان كنفاني قصته بسؤال كبير يلخص عمق المأساة في الدول المتخلفة، مخاطبا الرجال الذين ماتوا داخل الخزان مختنقين، قائلا «لماذا لم يدقوا جدران الخزان». عندنا في المغرب تعب الناس من «الدقان»، لكن يبدو أن الشاعر كان يقصد المغرب عندما أنشد ذات زمن مضى قائلا : «قد أسمعت لو ناديت *** ولكن لا حياة لمن تنادي لو نفخت في الجمر لأضاء *** ولكن هيهات تنفخ في الرماد».