دفع توالي حوادث الحرائق داخل السجون، والتي تتسبب فيها المواقد الكهربائية التي يوظفها المعتقلون لطهي الوجبات الغذائية أو لتسخين المياه من أجل الاستحمام، إدارة السجون إلى إصدار مذكرة عُمّمت على مختلف المؤسسات تحمّل المدراء ورؤساء المعاقل المسؤولية الإدارية والجنائية إذا لم يستغلوا صلاحياتهم لمنع استعمال المواقد داخل الغرف، مع تخصيص أماكن مستقلة داخل كل حيّ لتمكين النزلاء من تسخين وتهييء الوجبات. لهذا سارع مدير سجن «بولمهارز» وقتها المراقب العام محمد عياض، إلى شنّ حملة تفتيش همّت كل أحياء السجن وصودرت إثرها المواقد الكهربائية.. وهو قرار لم يرُق المعتقلين، كما أنه لم يرق بعض الموظفين الذين يستفيدون من هذا الأمر، ومنهم من صبّوا جام غضبهم على المدير، لتندلع شرارة «ثورة» حقيقية لم يعهدها سجن «بولمهارز» منذ إحداثه خلال فترة الحماية الفرنسية. كانت بداية التوتر عندما استدعى المدير رئيسَ جناح الجنائية -حيّ مخصص لإيواء المعتقلين على ذمة قضايا جنائية- وقام بتأنيبه داخل المكتب اعتبارا لأنه لم يقم بأيّ تحرك جدّي لإزالة المواقد الكهربائية. عاد رئيس الحي وهو يُرغي ويزبد ورمى بالقبعة والمفاتيح أرضا، لتصدحَ حناجر السجناء بشعارات ضدّ المدير.. امتدّ التمرّد إلى حي الابتدائية، ثم المصحة، التكوين، فحيّ الأحداث.. وفجأة، وجد الموظفون أنفسَهم في مواجهة موجة غضب جارفة، فأطلقوا سيقانهم للرّيح وغادروا أماكن عملهم.. بسط النزلاء سيطرتهم على كل مصالح المؤسسة، بعد أن كسروا الأبواب.. وكانت الوجهة الأولى غرفة التمريض في المصحّة. هناك تسنى لهم وضع اليد على مخزون الأدوية، بما فيها تلك المخصّصة للأمراض العصبية والعقلية، وهي أدوية مخدرة تتسبب في تهييج متناوليها.. أشبعوا حاجتهم ثم صعدوا إلى السطح وردّدوا شعارات «نارية» من قبيل «هذا عارْ هذا عارْ، السّجين في خطر.. ارحل يا عياض وجي يا عْزرية (وعزرية هذا مراقب عامّ كان يدير سجن بولمهارز طيلة فترة ال90 وحتى مطلع الألفية الثالثة وعرفت المؤسسة في عهده انفتاحا على المجتمع المدني وطفرة نوعية في النشاط الثقافي والفني). ومع أنّ مدير سجن بولمهارز محمد عياض له خبرة لا يُستهان بها باعتباره أدار العديد من المؤسسات السجنية (قلعة السراغنة، علي مومن، سيدي سعيد بمكناس، أيت ملول).. وعمل لعقود كمفتش ترتعد له فرائص المدراء، فإنّ «ثورة» معتقلي بولمهارز كانت مفاجئة للجميع.. تم حينها إشعار المدير العامّ لإدارة السجون والوكيل العام للملك في استئنافية مراكش، حيث صدرت تعليمات لكل الأجهزة الأمنية بالتحرّك وتطويق السجن، خاصة أن منظر عشرات السجناء وهم يعتلون الأسطح المطلة على العمارات السكنية والشارع العمومي استرعى انتباه المواطنين، الذين تجمّعوا في محيط السجن.. ووجدت السلطات الأمنية صعوبة بالغة في إبعاد الحشود وتوقف السياح الأجانب لالتقاط صور.. الأمر الذي أزّم وضع السلطات، خاصة بعد أن هرعت أسَر المعتقلين للاستفسار عن مصير أبنائها. دخل النائب العامّ في مفاوضات مع ممثلين عن المعتقلين، وفي لحظة اختلطت الهتافات بالصفير وترديد الشّعارات المطالبة برحيل المدير، رمى أحد السجناء آجورة صوب الوكيل العامّ كادت أن تزهق روحه، لولا أنّ مدير السجن أزاحه جانبا.. وظف المدير خبرته وقدرته على الحوار لإخماد «الثورة»، واعدا بالاستجابة لمطالب السجناء.. وبعد أن أحكم موظفو السجن سيطرتهم على المؤسسة تم إحصاء الخسائر المادية، وبعث المدير العام لجنة تفتيش استمعت إلى ثلة من المعتقلين والموظفين في محاضرَ رسمية رُفعت إلى المصالح المركزية، ليتقرر نقل متزعّمي التمرّد من المعتقلين صوب سجون مختلفة، مع متابعتهم قضائيا. كما نقل نائب المدير إلى سجن قلعة السراغنة. سنة بعد ذلك، سيتم نقل عياض إلى سجن عين قادوس في فاس، حيث عرفت المؤسسة في عهده محاولة فرار دامية نفذها معتقلون من أسرة واحدة احتجزوا نائب المدير وأصابوه بأضرار بدنية بليغة..