ينطوي الاستثمار على أهمية كبيرة في الاقتصاد الوطني، إذ يلعب دورا مهما في تحقيق نمو قوي ومنتج لفرص الشغل ويساعد على دعم الطلب الداخلي بتحسين القدرة الشرائية وعلى تقوية الطلب الخارجي بالرفع من تنافسية المقاولة المغربية وقدرتها على اختراق الأسواق. لكن نتائج الحسابات الوطنية أظهرت خلال الفصل الأول من سنة 2013 تراجع القيمة المضافة للقطاع الصناعي ونموا متواضعا للقطاع الخدماتي. وفي هذا الإطار، سجلت القيمة المضافة للقطاع الصناعي انخفاضا بنسبة 2 في المائة عوض ارتفاع قدره 2,6 في المائة خلال نفس الفترة من السنة الماضية، ويعزى هذا التراجع إلى: - انخفاض في القيمة المضافة لأنشطة البناء والأشغال العمومية بنسبة 5,9 في المائة مقابل ارتفاع 5 في المائة؛ - انخفاض في القيمة المضافة لأنشطة الماء والكهرباء ب4.2 في المائة عوض ارتفاع بنسبة 11.2 في المائة؛ - تراجع في القيمة المضافة للصناعة الاستخراجية ب3.6 في المائة عوض 5 في المائة؛ - نمو متواضع لأنشطة الصناعات التحويلية قدره 0.5 في المائة عوض 9,2 في المائة. أما القطاع الخدماتي فقد حقق معدل نمو بلغ 6,3 في المائة عوض 4,5 في المائة، حيث سجلت جميع مكونات هذا القطاع معدلات نمو إيجابية رغم بعض التباطؤ، لكنها عموما أقل مما تم تحقيقه خلال نفس الفترة من السنة الماضية: - البريد والمواصلات 14,7 في المائة عوض 23,7 في المائة؛ - الفنادق والمطاعم 3,7 في المائة عوض انخفاض بنسبة 4,8 في المائة؛ - الخدمات المقدمة إلى الأسر والمقاولات 2,8 في المائة عوض 5,5 في المائة؛ - التجارة 2,3 في المائة عوض 3,2 في المائة؛ - الخدمات المالية والتأمينية 0,3 في المائة عوض 5,4 في المائة؛ - الخدمات المقدمة من طرف الإدارات العمومية والضمان الاجتماعي 6,4 في المائة عوض 7,4 في المائة؛ - خدمات التعليم والصحة والعمل الاجتماعي 2,7 في المائة عوض 4,8 في المائة. فهذه الأرقام هي مؤشر على أن الأنشطة الاستثمارية في بلادنا لازالت تواجهها مجموعة من المعوقات والعراقيل التي جعلت الحكومة تجد صعوبة في تحقيق سعيها إلى الانتقال إلى درج جديد من النمو بهدف تحقيق نسبة نمو بمعدل 5,5 في المائة خلال فترة 2012 - 2016 ونسبة نمو الناتج الداخلي غير الفلاحي بمعدل 6 في المائة. ويمكن إجمال المعوقات والعراقيل التي تقف في وجه الاستثمار في العناصر التالية: - الأزمة التي تمر منها الحكومة وغياب التجانس بين مكوناتها وتدني النقاش العمومي عناصر أساسية أفقدت الجهاز التنفيذي عنصر المبادرة بل والقيادة الاقتصادية كذلك، مما جعل الفاعلين الاقتصاديين والمستثمرين أساسا يعيشون جوا من الانتظارية المشوبة بالقلق وغياب الرؤية الواضحة؛ - العجوزات التي تعرفها المالية العامة والميزان التجاري وميزان الأداءات وارتفاع نسبة المديونية العامة والضعف البين للسيولة البنكية، كلها مؤشرات لا تساعد على تثبيت واستقرار الإطار الماكرواقتصادي، مما يؤثر سلبا على الجاذبية الاستثمارية وعلى مستوى الادخار الوطني؛ - الانفتاح التجاري الكلي في إطار تطبيق الالتزامات تجاه منظمة التجارة العالمية واتفاقيات التبادل الحر مع العديد من الدول كان هدفه الأصلي تشجيع الصادرات، لكن العكس هو الذي حصل حيث أصبح سوقنا المحلي عرضة لغزو المنتجات الصينية والهندية والتركية والمصرية، مما جعل العديد من المعامل تغلق أبوابها في قطاعات عديدة تشغل أكثر من غيرها اليد العاملة، كالنسيج والجلد والإلكترونيك والبلاستيك ومواد البناء والصلب، والتي تعاني اليوم من غياب المنافسة الشريفة في ظل غياب تقييم حقيقي لهذا الانفتاح وغياب رؤية شمولية وإرادية لحماية الإنتاج الوطني ودعم تنافسية المقاولة الوطنية؛ - عدم الانخراط الكلي للنظام البنكي في المجهود الوطني الاستثماري بسبب عدة عوامل تنضاف إلى ضعف السيولة كارتفاع نسبة الفائدة والتضخم الاحترازي الذي ينتج عنه اشتراط ضمانات زائدة على اللزوم، وكذلك النسق غير السريع لتنفيذ عمليات القرض، مما يؤثر سلبا على تشجيع الاستثمار، خصوصا لدى المقاولات المتوسطة والصغيرة والمتوفرة على مؤهلات النمو التي تجد نفسها في وضعية صعبة لا تسمح لها بولوج التمويل البنكي؛ - ضعف الموارد البشرية المؤهلة للعمل في العديد من القطاعات الاقتصادية، وذلك بسبب عدم ملاءمة النظام التعليمي للمتطلبات الجديدة لسوق الشغل، مما يجعلنا أمام مفارقة تتجلى في عرض متوفر بسبب تخرج الآلاف من الموارد البشرية، لكن بالمقابل هناك قطاعات اقتصادية ترفض توظيفها نظرا إلى أن التخصصات المطلوبة لا يوفرها سوق الشغل؛ - تباطؤ وتعقد المساطر الإدارية، خصوصا على المستويات المحلية والإقليمية، بالإضافة إلى أن الإطار القانوني والضريبي الحالي الذي ينظم علاقات الأعمال يعرف مجموعة من العراقيل على مستوى، مثلا، تسجيل الأراضي، تأمين حقوق الملكية والعلاقة الصدامية المبنية على عدم الثقة بين المقاول والعديد من الإدارات؛ - غلاء العقار وغياب سياسة واضحة لتعبئته يشكل حاجزا أمام تنمية الاستثمار، فلا يمكن الرفع من عدد المقاولات في ظل ما يعرفه السوق العقاري من فوضى ومضاربات، كما أن تعبئة العقار العمومي لصالح الاستثمار تعرف العديد من الاختلالات والتعقيدات؛ - الاختلالات التي يعرفها الجهاز القضائي على مستوى تأخير البت في ملفات الأعمال وطبيعة العديد من الأحكام، مما يشكل عنصرا سلبيا للتحفيز على الاستثمار، بالإضافة طبعا إلى غياب قضاء اجتماعي مختص في حل النزاعات بين أرباب العمل والأجراء؛ - القطاع غير المهيكل وعمليات الريع والاحتكار والتهريب والتهرب والتملص الضريبيين، كلها عناصر أساسية تساهم في ضعف الاستثمار نتيجة عدم احترام قواعد المنافسة الشريفة، مما يدفع المستثمر الذي يفي بالتزاماته الاجتماعية والضريبية إلى البحث عن أجواء أخرى للأعمال؛ بالإضافة إلى ظاهرة الرشوة التي ارتفعت خلال السنتين الأخيرتين حسب تقرير "ترانسبرانسي" الأخير والتي أصبحت تعم جل القطاعات. ونحن نتابع خطوات الحكومة من خلال تدبيرها للشأن العام منذ تنصيبها بداية السنة الماضية، لاحظنا أن العديد من الملفات لم يتم تفعيلها بالشكل المطلوب والأمثل: فأين هي المناطق الصناعية المندمجة المبرمجة، خصوصا في البيضاء وفاس؟ لماذا لم يتم إخراجها إلى حيز الوجود، خصوصا وأن بلادنا في أمس الحاجة إلى تحريك أنشطتها الاستثمارية؟ وإذا كانت الوكالة المغربية لتنمية الاستثمار آلية أساسية من آليات استقطاب الأعمال، خصوصا الاستثمارات الأجنبية، فلماذا لم يتم تعيين مدير عام جديد لهذه الوكالة التي تعاني من غياب الرأس المدبر منذ أكثر من سنة، مما جعلها تعيش في التخبط والارتباك. وإذا كانت للفاعلين في قطاع النسيج رؤية جديدة لتطوير هذا القطاع للقطع مع "المناولة" واعتماد "المنتوج النهائي"، فما الذي يمنع الحكومة من وضع برنامج تعاقدي جديد مع هؤلاء الفاعلين، وذلك على شاكلة النموذج التركي من أجل تصليب القطاع وجعله يتحكم في كل سلاسل أنشطته؟ كذلك، لا بد من التساؤل عن ضعف نسبة المنتوجات الفلاحية التي يتم تحويلها إلى صناعة غذائية والتي لا تتجاوز 10 في المائة (25 في المائة في بلدان مشابهة لنا)، حيث إن الصناعة الغذائية معطلة اليوم بفعل غياب رؤية استراتيجية وبفعل ضعف التنسيق بين وزارتي الصناعة والفلاحة. ثم لا بد، أيضا، من الإشارة إلى البطء الذي تعرفه وتيرة تفعيل عمليات "امتياز، مساندة، إنماء" التي تمت بلورتها من أجل تأهيل المقاولات المتوسطة والصغرى. أما على مستوى التجارة، فسنكتفي بطرح النقط التالية: - أسواق الجملة التي تعيش مجموعة من المفارقات بفعل سوء التدبير وهيمنة الوسطاء و"الشناقة" الذين يتحكمون في أسعار المواد الغذائية الأساسية (خضر، فواكه، وسمك...)، حيث إن المتضرر الكبير من هذه الممارسات هو المستهلك، أي المواطن، ونفس الشيء ينطبق على الفلاحين الذين يجدون صعوبات كبيرة في تسويق منتوجاتهم بفعل ممارسات هؤلاء الوسطاء، حيث نلاحظ غياب التنظيم والتقنين والمراقبة؛ - تكاثر الأسواق التجارية الكبرى له تأثير سلبي على التجار المتوسطين والصغار، فلماذا لم يتم تفعيل مخطط عصرنة تجارة القرب من أجل حماية هؤلاء التجار الذين يشكلون فئات عريضة داخل المجتمع. أما بخصوص قطاع الخدمات، خاصة ما يتعلق بالسياحة، فنسجل بعض التقدم الإيجابي بهذا القطاع في إطار رؤية 2020، بالرغم من العديد من المعوقات الإدارية والضريبية والتمويلية في هذا المجال. إن كل المؤشرات تجعلنا نطرح تساؤلا نعتبر أنه يجسد اختيارا جوهريا، هل من المجدي أن يستمر الاقتصاد الوطني في الاعتماد على الطلب الداخلي أم يتعين كذلك إنعاش الاقتصاد الموجه إلى التصدير؟ ألا يحتم علينا هذا الاختيار اعتماد التصنيع كأولوية وطنية لأنه هو الكفيل بخلق فرص شغل قارة واستيعاب مهارات من مختلف المستويات وإنتاج قيمة مضافة حقيقية والرفع من المداخيل العمومية وإحداث ديناميات في قطاعات أخرى: النقل واللوجستيك والتجارة والتجهيز والتكنولوجيات الحديثة؟ هل سنفضل انبثاق أقطاب صناعية وطنية كبرى أم سنركز على دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة؟ إن نجاح أي نموذج تنموي مرهون بتطوير وتحسين المؤشرات الأساسية التالية: - الإنتاجية، حيث من المفروض أساسا إعادة النظر في نظام الدعم وفق مقاربة شمولية، بالإضافة إلى الحد من التعاملات الريعية؛ - التنافسية التي تحتم تشجيع التصدير عبر الاستثمار في المواد الإنتاجية والخدماتية القابلة للتبادل، بالإضافة إلى تشجيع استهلاك الإنتاج الوطني شريطة توفر الجودة؛ - الحكامة، من خلال إجراءات تهم تحسين مناخ الأعمال بكل أبعاده، القضائية والقانونية والإدارية، بالإضافة إلى محاربة الرشوة. في هذا الإطار، نريد أن نعرف إلى أي حد تكبل المسؤولية أو تكاد منابع الجرأة التي هي الغائب الحاضر في تدبير رئيس الحكومة لملف الاستثمار الذي يشكل القلب النابض للاقتصاد الوطني؟ لذلك نكتفي بعرض عناوين تحتاج إلى قرارات: هل سيمارس رئيس الحكومة كامل مهامه في الإشراف والوصاية على كل المصالح الوزارية للحد من التسيب وضغط المركب المصالحي على القطاعات الوزارية؟ هل سيعمل على الحسم مع ضبابية وتداخل الاختصاصات التي تضيع بينها المصالح أم سيظل لسان الحال يقول: كم حاجة قضيناها بتركها؟ هل سيذهب إلى أبعد الحدود في مواجهة اقتصاد الريع والاحتكار والتهريب ورخص الامتيازات والاستثناءات في مجالات الصيد البحري، المقالع، النقل، الملك العام والخاص للدولة...؟ هناك عشرات الأسئلة من هذا القبيل يعرف رئيس الحكومة مجالاتها بالتأكيد، وطرْحُنا لهذا الجزء منها ليس من باب التعجيز، بكل صدق، بل هو من صميم الإصلاح والتقدم في مجال تطوير مناخ الأعمال وتطهير المحيط القانوني والقضائي والمؤسساتي والإداري بكل أبعاده. إن ما نتمناه هو أن ننتقل، عبر الدستور الجديد، من مستوى تصادم الأفكار والقناعات إلى امتحان الأفعال والنتائج. إننا مقتنعون بأن بلادنا، انطلاقا مما راكمته من تطورات وتجارب، هي في حاجة إلى بناء نموذج تنموي جديد يضع الإنسان في صلب أولوياته ويشجع المنافسة الشريفة على قاعدة تكافؤ الفرص وإعادة توزيع الثروات ومحاربة الفوارق الاجتماعية والمجالية. إننا لا ننتظر أجوبة سريعة، ونحن من جانبنا لن نتسرع في إعطاء أحكام جاهزة، لكن الحكومة مطالبة ببلورة رؤيتها وبرامجها في هذه المجالات في صيغة التزامات محكمة، واضحة ودقيقة قادرة على أن تصبح موضوعا للمساءلة والتقييم.