بعد أذان المغرب، أفضل البحث عن قناة "المغربية" لسبب بسيط، وهي أنها القناة الوحيدة في المغرب التي لا تزال وفية لتقاليد رمضانية عتيقة، على رأسها تلك الوصلة المطولة للطرب الأندلسي، والتي تتحالف مع دفء الحريرة فتجعلان مخ الصائم يدخل في غيبوبة جميلة ورائعة. في الماضي، لم نكن نتعب كثيرا، ومع ذلك كان التلفزيون يعطينا جرعتنا من الراحة عند كل إفطار. وكل أذان كان يُتبع بدعاء طويل، ثم بعده تبدأ وصلة طويلة من الطرب الأندلسي، لكننا لم نكن نتوفر على الوقت الكافي لذلك، حيث كنا نقفز مثل القردة إلى الأزقة المظلمة لكي نبدأ ألعابنا الطفولية التي تستمر حتى حدود الفجر. في تلك الأيام، كانت المسلسلات الرمضانية قليلة ومرتبطة بهذا الشهر الكريم، ولن ننسى أبدا تلك المسلسلات التي كانت رائعة في مواضيعها ولغتها العربية المتقنة حرفا حرفا وكلمة كلمة وجملة جملة.. كانت تلك المسلسلات مدرستنا الإضافية. لم يكن الناس وقتها يأبهون كثيرا للتلفزيون، وكانت الزيارات بين الجيران عادة طبيعية، وفرن الحي يبدأ في استقبال الحلويات منذ أول يوم، أما ألعابنا فكانت بالعشرات، وعندما نتعب كنا نجلس في حلقات، مثل شيوخ متقاعدين، نلعب الورق أو يحكي كل منا حكاية سمعها في مكان ما، عن أمه أو جدته أو أبيه، وحين ينتهي كل شيء، تبدأ الشقاوة وحبْك المقالب لبعضنا البعض. رمضان ذلك الزمان كانت له رائحة ومذاق. كنا عادة ما نترك المنزل ونتآلف في تحالف طفولي لنعد طاجين سمك، وعادة ما يكون السمك من نوع "الشّطون"، فنتخير طهوَه إما في فرن الحي أو على نار نوقدها في مكان معزول، غير أن الطاجين الذي يعده أربعة كان يأكله عشرة أو أكثر، ومع ذلك كنا نشبع ونزيد. لم نكن في ذلك الزمان نحار كيف نرى هلال رمضان أو هل سنصوم مع السعودية أم مع الاتحاد السوفياتي. كنا، يوما أو يومين قبل رمضان، نتجمع عند هضبة صغيرة على حافة الحي ونتنافس فيمن سيكون أول من يرى الهلال، وعادة ما كان بعضنا يخلط بين الهلال وتلك الطائرات التي كانت تقلع من المطار البعيد وتحلق عاليا فتبدو صغيرة جدا. وقتها، كثيرا ما حصحص الهلال علانية فوق رؤوسنا، ولم نأبه للتلفزيون الذي كنا نعتبره محتالا، لأنه عادة ما يربط هلال رمضان بدعاء للحسن الثاني ينتهي بعبارة "أعاده الله على جلالته باليمن والبركات"، فنرى في ذلك خلطا للسياسة بالصيام. أتذكر مرة كيف انتظرنا الهلال طويلا، وحين تعسر ظهوره قال لنا التلفزيون إن فاتح رمضان سيكون بعد غد، لكن في اليوم الموالي، وفي حوالي العاشرة صباحا، بدأ الجيران يدقون أبواب بعضهم البعض في فزع ظاهر بعد أن تأكد ظهور الهلال، لكن الأوان كان قد فات، ومن وقتها صرنا حذرين من هذا التلفزيون الذي يُفطر المسلمين في عز رمضان. اليوم ينتظر كثير من الناس رمضان ليس من أجل الصيام، بل من أجل التلفزيون، وهذا التلفزيون صار يتجبر كل سنة أكثر ويربط مصيره بمصير المغاربة، إلى درجة أن الثورة في المغرب يمكن أن تحدث لسبب واحد، وهو في حال لم تكن "السيتكومات" والمسلسلات والكاميرات الخفية مضحكة بالشكل اللازم. هكذا صار التلفزيون يمارس كل الموبقات في حق الناس. لقد أباد تلك المسلسلات التاريخية الجميلة، بلغتها الرائعة وأحداثها العميقة، وعوضها بمسلسلات وسكيتشات بذيئة مسخت بيوت المغاربة. أما اللغة الجميلة فذهبت إلى الجحيم وعوضتها "لغة" الكاميرا الخفية، حتى إنني أستغرب كثيرا صمود المغاربة أمام هذه الأعمال الوبائية، لأن المفروض أن شعبا يداوم على رؤية هذا التلفزيون لخمس سنوات فقط من الضروري أن يتحول أفراده إلى قردة. رمضان هذا الزمان لا علاقة له برمضان الماضي، وكل رمضان يعكس طبيعة ومزاج وثقافة أهله. في رمضان ذلك الزمن كان المغرب مريضا، تماما كما هو اليوم، لكن كانت فيه معارضة ورجال شرفاء يناضلون ويضعون رقابهم تحت مقصلة الجبروت والتسلط.. كان الناس أكثر معاناة لكن أحلامهم كانت أكبر بكثير من أحلام اليوم. اليوم، صار الواحد يحلم بمنزل وسيارة و"همزة"، وفي الماضي كان كل واحد يحلم للآخرين ولنفسه.