هذه الأزمة لا يمكن أن تقَع إلا ضمن برنامج سياسي بقرار خطة فيها نظام احتساب نتائجها مِن جميع جوانبها الأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم هي في حقيقتها أزمة نظام بل أزمة فكر وأخلاق ولا علاقة للاقتصاد بها وليس أدلَّ على هذا من تصريحات جميع الاقتصاديين بأن الأسس الاقتصادية متينة جداً ولن تتأثر وأنها مجرد أزمة سيعود بعدها الاقتصاد أقوى مما كان عليه. هذا إذا صحَّ اعتبارها أزمةً نَتَجَت بطبيعتها عن طبيعةِ نظام أو إذا كانت مفتَعَلَةً. بحثنا لن نتطرق فيه إلى سبب الأزمة لأن الكلام فيه لا يجدي وهو أشبه بالثرثرة لكثرة تداوله. هناك أقاويل حول أنَّ هذه الأزمة هي مفتَعَلَة مِن قِبَلِ الحكومة الأمريكية، مثل أحداث عاصفة الطائرات في 11/9/2001 التي كانت تمهيداً لتنفيذ برنامج أمريكي لاحتلال بلاد المسلمين منفردة. نحن جزمنا بأنَّ أحداث 11/9 كانت، فكرةً وتخطيطاً وتنفيذاً، عملاً قامت به الحكومة الأمريكية لتنفيذ خطتها السياسية الجديدة باختطاف العالم. لا نعترض على الذي يقول إنَّ هذه أيضاً مؤامرة منذ البداية لأنَّ هذا لا يؤثِّر في بحثها. لكن رأينا هنا في موضوع الأزمة الاقتصادية، نقول فيه إنها لم تكن ابتداءً مِن تخطيط الحكومة، لكن لما تيقَّنَت الحكومة من أنَّ الأسواق تسير في طريق الانهيار تلقَّفَت المناسبة ووضعت خطة جبارة لاستحداث وضعٍ مالي يسهل فيه ضرب رؤوس أموال الدول وخاصة الأوربية منها والسيطرة عليها بعد تحجيمها إلى الحدِّ الأدنى وشلِّ طاقتها التوسعية في المستَقبَل، وبذلك تضرب طاقة النمو في دولها. ولاستحداث التغييرات التي كان من المستحيل أن تقوم بها منفردةً أو بفرض صيغتها بسبب المعارَضَة العارمة مِنَ قوى السوق المالية محلياً ودولياً وبسبب معارضة القوى السياسية الرئيسة دولياً. وقائع العاصفة ابتداءً تحتمل المؤامرة، لكن الدلائل التي تشير إلى أنها مؤامرة الحكومة الأمريكية التبَس فهمها لأنه لم يقم أحدٌ بربطها، وبذلك بقيت عندَ الخبراء متناثرة مستقلةً بموضوعها. الموضوع أنَّ الحكومة الأمريكية لاحظت منذ فترة طويلة، أي منذ أكثر مِن سنتين، أنَّ الفارق بين سعر السِّلَع الحقيقي وسعرها في التداول أصبح يفوق قدرة الكتلة النقدية على استيعابه. عندما نقول أكثر مِن سنتين يعني قبل أي إشارة علنية من السوق وقبل بدء وقوع أحداث تنم عن هشاشة السوق النقدي. عندما نقول سعر السِّلَع نعني البيوع الفورية والآجِلَة لأنَّ العقار كسلعة والنفط والمواد الغذائية وكلَّ شيء يتم بيعه وشراؤه يداً بيد لا يمكن أن يسبب أزمة مالية لأن الأصل أنَّ النقد لتمويل تبادلها والخدمات المتَعلِّقة بها أو تنتج عنها وعن نظام تبادل منفعتها وملكيتها. كلفة تمويل السوق الآجلة بلغت ستمائة تريليون دولار بينما العقار 19 تريليون، طبعاً هذا لا يعني أنَّ هذه مبالغ مالية دُفِعَت أو تمَّ صرفها فأثَّرت على انعدام السيولة لأن عقود البيوع الآجِلَة عقود وعود تموَّل بفوائد على الوعود وليس بدفع ثمن الوعد إلا في حالَة الاستلام والتسليم. لكنَّ أعباء هذا الكم الهائل مِنَ الوعود بلغت ستين تريليون دولار. الذي يمكن أن يسبِّب أزمة نقد هو اصطناع سوق بدون حدود لطاقته أو مداه أو حجمه مثل «سوق الوعود» أو ما يسمونه سوق البيوع الآجِلَة أو سوق المشتَقات المالية. لكنه أيضاً لا يستحدِث أزمة مثل هذه الأزمة لأن الذي يضمن محكوم بقوانين وحدود لا يستطيع تجاوزها. هذه الأزمة لا يمكن أن تقَع إلا ضمن برنامج سياسي بقرار خطة فيها نظام احتساب نتائجها مِن جميع جوانبها لأنها تستلزم التغاضي عن تنفيذ القوانين التي تحكم النقد ودوره والتسليف وأحكامه والتجارة وطاقتها والرأسمال وإنتاجه. وقوع جميع هذه القطاعات في أجواء تسمح بالتعامل خارج أنظمتها لا يمكن أن يقع بالصدفة بل بخطة إخضاع لأنه لا يمكن تعطيل أجهزة متعدِّدة إلا بإرادة الحكم التي تسيطر على قرار الإجراءات في هذه الأجهزة. آلية الأنظمة المالية والإجراءات وأجهزة الرقابة النقدية وتعدد المجالس والأسواق المالية وسلطة الاحتياط الفيدرالي ووزارة المالية وعشرات بل مئات المجالس والإدارات الرديفة والمتخصِّصة في المجالين المالي والنقدي يجعل السوق النقدي والمالي والاقتصادي برمته تحت المجهر الدائم. استحالة وقوع خلَل في السوق والجزم بأنَّ السلطات النقدية والسياسية كانت تعلم بوقوع ما وقع أمر لا يحتاج إلى بحث حتى إنه في الأخبار والتحليلات الاقتصادية أمر ثابت متَوَافَق عليه، وقد قالَ به كل ذي رأي في الموضوع. وهذا أحد الدلائل الذي يستدل به الذين يقولون إنه عمل الحكومة الأمريكية لأنهم يظنون أنها كانت قادرة على تلافي وقوع الأزمة لو أرادت ذلك. فَهْمُ لماذا ارتفع سعر النفط يوضِح أنها لم تكن تستطيع معالَجَة الأزمة قبل أن تمتلك أدوات المعالَجَة. الربط بين سعر النفط وأسباب الأزمة وبين إمكانية الخبراء وساسة الاقتصاد في ما يمكن أن يقدِموا عليه في الظروف التي ستسمح للحكومة الأمريكية بالقيام بإجراءات، يوضِح أنَّ رفع سعر النفط ومعه الغذاء هو السبيل الوحيد لزيادة القدرة النقدية للحكومة للقيام بما يمكن أن تقوم به. خطر عدم وجود كتلة نقدية تمويلية تغطي الطلب يعني سقوط الأسعار حتى الحد الذي تستطيع معه الكتلة النقدية التمويلية تغطيته، هذا في الكلام الدقيق أو النظري، لكن في الواقع، ليست جميع مطلوبات السوق المالية والمستَحَقات العقارية تتحقَّق في اليوم نفسه، ولذلك هناك إمكانية للحفاظ على فارق لا بأس به بين القيمة الحقيقية والقيمة المتداوَلَة ومنها القيمة التي تشمل ربح المضارِب وفائدة التمويل. عندما يقل هامش الفارق النقدي عن فارق حركة السوق العادية بين الذي يبيع ويشتري، أي بين العرض والطلب، يعني أن يقل الشراء عن النسبة العادية للمعروض. مِثال ما حصل بين سعر العقار الحقيقي في أمريكا تسعة تريليونات دولار وبين السعر التمويلي للسوق الذي بلغ تسعة عشر تريليون دولار، الفرق عشرة تريليونات هو السعر التضخمي الذي لا يقابله رهن واقعي بل رهن ورقي. هذا كان يمكن أن يستمر ويقوم السوق بالتصحيح التدريجي في الحالات العادية لو كان في الكتلة النقدية فائض كافٍ لفترة التصحيح. لكن انتفاخ سوق الأسهم وسوق المشتقات المالية في الوقت نفسه يمكن أن يمتصَّ الهامش النقدي الذي يستحدث الفرصة لإعلان أزمة نقد. وعندما يحصل هذا يبدأ السوق بالاهتزاز لأنه يذهب باتجاه تزايد طلبه على النقد لتمويل جمود الحركة المالية، وهي القروض التي تؤمِّن توازن البيع والشراء، مما يخفِّف ضغط الفرق بين الكتلة النقدية وحاجة السوق. هذا يحصل كل يوم وفي كل لحظة لأنَّ الكتلة النقدية في النظام الرأسمالي تقوم على حساب الرياضيات لأنها لا يمكن أن تقوم على طبيعة النقد. طبيعة النقد الطبيعية يجب أن تكون جزءاً مِنَ الطبيعة أي مِنَ الموجود في الطبيعة ومِنَ المخلوق مع الطبيعة ومنذ اليوم الأول لإيجادها لأن الإنسان الأول كان بحاجةٍ للنقد كما إنسان اليوم. وأيضاً لأنَّ النقد بحاجةٍ إلى آليَّةٍ لقياس الأشياء به ولقياسه بها تنبثق مِن ذاته لا مِن آليةٍ مفروضة عليه وعلى الناس للقبول بها أو الاستعاضة عنها بنظامٍ حسابي. طبيعة النقد أو موضوع النقد ليس موضوعنا هنا لأن البحث هو في: لماذا الذي يحصل كانت تعلم الحكومة الأمريكية بأنه سيحدث ولم تتلافه. الحكومة كانت تعلَم أنَّ هذا الذي يحصل سيقع لكنها كانت تعلم أيضاً أنها لا تستطيع منعه أو التخفيف من شدَّته وأنَّ أقصى ما تستطيع فعله هو التهيؤ لمعالَجَة آثاره والاستفادة مِن وضعه خاصة بعد أن بلغ سوق المشتقات المالية 600 تريليون دولار. النظام الرأسمالي ليس نظاماً عقلياً لأنَّ العقل لا يمكن أن يقبل أي فكرٍ مِن أفكاره. إنه نظام غريزي لأنه يعتمد في غايته على إشباع الغرائز لا على غايته التي يحدِّدها العقل المنبَثِق عن الفكرة الكلية للحياة والإنسان والوجود. الغرائز عندما تفرض على العقل غاياتها تتحول إلى أن تكون هي طاقة وسبب عمله وتقوده في تسخير طاقته الإبداعية فيصبح كلُّ ما ينتِجه يتعلَّق بارتدادٍ أو إشباعٍ غريزي. لذلك حلول مشاكله لا تصدر إلا مِن فكرٍ ينشأ عن الفكر الذي صاغته عقولهم لتلبية حاجة الغريزة ابتداءً بغضِّ النظر عن الموضوع إذا كان أصلاً أو فرعاً أو نتيجةً أو معالَجَةً، أي أن معالَجَة أي مشكلة يجب أن تكون مِن جنس الفكر الذي نشأت عنه المشكلة. المعالَجَة الوحيدة التي كان يمكن أن تخطر على بال جميع الاقتصاديين الغربيين أو اقتصاديي النظام الرأسمالي هي زيادة الكتلة النقدية بكمية هائلة وبسرعة قصوى حتى تتم السيطرة على الانهيار بسبب قلة النقد بدفقٍ هائلٍ مِنَ السيولة. الأمر الثاني في حصول «الكارثة» الاقتصادية أنها مناسبة نادرة لاستحداث تعديلات رقابية وتشريعية تحت الوطأة التي تمنع اختلاف السياسيين والحزبيين عليها. الأزمة أمريكية لكنها تحوَّلَت إلى عالمية والتعديلات أمريكية محلية لكنها ستؤثر في العالم، وهنا يكمن السر في المؤامرة التي تصوغها أمريكا والتي سيسري مفعولها كالسم في العروق من دون أثرٍ ظاهرٍ له.