لو قدر ليوسف بن تاشفين أو لزوجته زينب النفزاوية، أو حتى للمعتمد بن عباد، أن عاشوا بيننا اليوم وزاروا المحطة الجديدة للقطار بمراكش لاعتقدوا أنهم أمام باب مدينة إرم ذات العماد، وأن شداد بن عاد هو الذي شيدها بألف عمود، وبمليون بذخ، وبلا منتهى من العظمة، حتى إن شداد أراد لمدينته أن يعوض بها الجنة الموعودة لكن على الأرض، فيما محطة القطار بمراكش يبدو أنها شيدت لتكون شاهدة على التفاوت الطبقي في مدينة التصوف والمتصوفة والعلماء. الداخلون إلى المحطة الجديدة للقطار بمراكش يتوحدون في السلوك البشري، فهم يفتحون أفواههم ويرفعون رؤوسهم لعظمة البناية ولبذخها، حتى السياح الأجانب يفعلون الشيء نفسه، فباب المحطة الذي يشبه أبواب العمارة الدمشقية وأبواب الفاطميين في مصر وأبواب ملوك الطوائف في الأندلس لا يوجد مثله في محطات قطارات مدريد أو باريس ولندن، فقط لأن البذخ هو ما تبقى للعرب بعد أن دخلوا مظفرين عصر الظلمات. يُحار المرء فعلا حين يرى بناية مثل محطة قطار مراكش، بأدراجها الكهربائية المتحركة وساعتها النحاسية العملاقة ورخامها المفروش على الأرض بسخاء، ومطاعمها العالمية ومقاهيها الراقية، ووجوه مرتاديها الذين لا يختلفون عن أجساد عارضي الأزياء، وبين وسخ محطة «الكيران» بباب دكالة ومتسوليها ونسائها اللائي يجررن وراء أذيالهن أيتامهن الجائعين، وأطفال «السيليسيون»، ومطاعمها الشعبية الحقيرة التي يشرب فيها المارة الشاي في نفس الكؤوس التي لا تنظف إلا خلال رمضان. الحضارة في مراكش تشيد بجانب البؤس والتخلف والهامش، فتلك الشابة التي تحمل في يدها حقيبة «لوي فويتون» التي يصل ثمنها إلى 5 آلاف أورو، وتجر معها كلب «شيواوا «بقيمة 3 آلاف أورو، وتلبس أزياء شانيل» وساعة «سيروتي» اليدوية، وفي حقيبتها بطاقة التعريف الوطنية وتدخل محطة القطار الجديدة وأنفها في السماء، تنسى أن هناك الآلاف يحملن بطاقات تعريف مثلها، ولا يجدن حتى ثمن غطاء صوفي يقيهن برد مراكش في الليل. مراكش أصبحت خشبة مسرح عملاق وحي، تتناوب عليه مشاهد التباهي الاجتماعي والطبقي، حتى تلاميذ البعثة الفرنسية التي يعمرها المغاربة أكثر من أبناء الأجانب يحرسهم عناصر شرطة يرابطون اليوم كله في «كات كات» تابعة للأمن الوطني، فيما تلميذات ثانويات وإعداديات أحياء دوار العسكر وسيدي يوسف بن علي والداوديات يحرسهن قطاع طرق بشفرات حلاقة، وتجار مخدرات مبتدئون يغرسون فيهم «قيم» الرعب والانحراف والعنف. مراكش اليوم تحولت إلى مدينة «موضة»، الكل فيها يريد أن يشهر بذخه وغناه، والكل فيها يتنافس على الأبهة والعظمة الخاوية، وحده البؤس خرج من هذا السباق مرفوع الرأس هذه المرة، لأنه الحقيقة التي لا تقبل التنافس والإشهار.