سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الحي البرتغالي بالجديدة.. تراث عالمي يتهدده الإهمال و«زحف» الأجانب إحدى أهمّ الوجهات السياحية في المدينة في حاجة إلى التفاتة لشد انتباه الزّوار المغاربة والأجانب إليها
تفتقت عبقرية بعض المسؤولين في مدينة الجديدة، مؤخرا، وقاموا بوضع نصب حديدي كبير، عبارة عن «علامة استفهام حمراء»، أمام أحد أهمّ الأبواب الثلاثة المؤدية إلى داخل المعلمة التاريخية الكبيرة «الحي البرتغالي»، أو «الملاح» كما يسميه الجديديون، أو «مازاغان» بلغة التاريخ.. ربما لم يكن في حسبان أصحاب فكرة وضع «علامة الاستفهام الحمراء» أنهم أوحوا لزوار الحي البرتغالي بفكرة الزيادة في التمعن أثناء زيارتهم إلى أروقة الحي البرتغالي ودروبه الضيقة، والتمعن أكثر في وضعيته ومدى جاذبيته للسياح والزوار عموما. كما أوحت لنا علامة الاستفهام تلك نحن أيضا بطرح سؤال بحجم علامة الاستفهام تلك أو أكبر حول واقع الحي البرتغالي وإيجابياته وظروفه ومشاكله وكذا حول مدى توفره على فضاءات بإمكانها أن تشدّ حواس زائريه لمدة زمنية معقولة، لكنْ ربما فات مبتكري فكرة «علامة الاستفهام الحمراء» فكرة وضع كتاب ضخم بإمكانه أن يتيح الفرصة لكلّ من قام بزيارة الحي البرتغالي كي يدون عليه ارتساماته وملاحظاته والمدة التي قضاها متجولا داخل الحي التاريخي مباشرة بعد مغادرته لأبوابه . مازاغان.. ذاكرة تاريخية يعَدّ الحي البرتغالي ذاكرة مدينة الجديدة بامتياز، لكونه شاهدا على أهمّ مراحل تاريخها، وهو قلعة «مازغان البرتغالية»، التي استمدّت اسمها من «مازيغن» الأمازيغية، الواردة في المصادر منذ القرن ال11 م. بنيت «مازغان»، كما أكد ذلك ل«المساء» أبو القاسم الشبري، مدير مركز الدراسات وأبحاث التراث المغربي البرتغالي، ومندوب «يونسكو» لتدبير الحي البرتغالي كتراث عالمي، أولا بين 1510 و1514م وحملت اسم الحصن المعروف اليوم ب«المسقاة البرتغالية» وقاعاتها. وينسب الحصن للمهندسين فرانسيسكو ودييغو دي أرودا. وبين 1541 و1548 تمّ، بخطاطة للمهندس الإيطالي بنديتو دي رافينا، توسيع الحصن إلى قلعة بأسوارها العريضة والخندق المحيط بها والبستيونات الضّخمة الحاملة للمدفعية. كما أن تحويل الحصن إلى قلعة أملاه طرد السّعديين للبرتغاليين من أكادير وأسفي وأزمور سنة 1541. وكان البرتغاليون قد دخلوا «مازيغن» سنة 1502 عنوة، وليس بمحض صدفة عاصفة بحرية، كما ادّعت ذلك نصوصُ المرحلة، لتفادي الصدام بين البرتغال ومملكة قشتالة، المتنازعين على احتلال إفريقيا بتحكيم بابا روما . وفي شهر مارس من سنة 1769، وبعد حصار أزيد من شهرين، حرّر سيدي محمد بن عبد الله «مازغان» بشكل سلميّ، لكن حاكم القلعة خان العهد وفجّر الأسوار، فبقيت مهجورة خمسين سنة، فأعاد إعمارَها مولاي عبد الرحمان بن هشام، وأسكن فيها المسلمين واليهود المغاربة، على السواء، وأسماها «الجديدة»، بينما أسكن البرتغالَ أهله من مازاغان في أمازون البرازيل، في «مازغاو نوفا». مازاغان.. حضن الثقافات تتعايش داخل القلعة البرتغالية «مازاغان» إلى حدود اليوم معالم الثقافة المغربية والبرتغالية والإيطالية والإسبانية منذ القرن السادس عشر، كما تعايش فيها المسلمون واليهود المغاربة منذ بدايات القرن التاسع عشر، وتعايش معهم الأوربيون الوافدون من كل دول أوربا من أجل التجارة والأعمال في مدينة الجديدة ومينائها النشيط. ويؤكد أبو القاسم الشبري أنّ قلعة «مازاكان» شكلت أول تمظهر لتلاقي البرتغال وأوربا -النهضة مع إفريقيا، وأول تطبيق لفلسفة النهضة في المعمار في إفريقيا.. ولهذه الاعتبارات التاريخية والعلمية والثقافية والعمرانية أقدمت منظمة «يونسكو»، في دورة سوزهو في الصين، يوم 30 يونيو 2004، على إدراج «مازاغان» ضمن لائحة التراث العالمي . التفويت التدريجيّ للأجانب تحتضن «القلعة البرتغالية» بين أسوارها حوالي 340 منزلا، منها حوالي 36 منزلا صار يمتلكها أجانب أو تحولت إلى «رياضات»، منها المصرح به كفندق قانونيّ ومنها التي تمارس أنشطتها في استقبال السياح «في السوق السوداء».. ويضمّ الحي البرتغالي، كذلك، أزيدَ من 50 متجرا يمارس أصحابها أنشطة مختلفة، أغلبهم يتاجرون في بيع «البازارت». كما يضمّ الحي البرتغالي أربعَ زوايا دينية ومسجدا واحدا وخمسة معابد، إضافة إلى عدد من الفضاءات الأخرى.. «ما بْقى ما يْدّار في تجارة البازارات».. كانت العبارة التي ردّدها عدد من ممارسي هذه المهنة، فهم يؤكدون أن إقبال زوار الحي البرتغالي على شراء التحف والتذكارات والزّرابي في تراجع خلال السنوات الأخيرة.. لا جديد في الحي البرتغالي منذ سنوات، هناك ركود في عدد الزوار، وحتى من يزورونه بشكل دائم أصبحوا مع مرور الأيام من سكان الحي، بعد أن اشتروا منازل من أصحابها بأثمنة بخسة وحوّلوها إلى «رياضات» يستقبلون فيها أصدقاءهم من حين إلى آخر، وعلى طول السنة دون أن يستفيد منهم الحي أي شيء.. جلب الحي البرتغالي، منذ تصنيفه كتراث عالمي، العديدَ من المستثمرين الذين اقتنوا مجموعة من الدور لاستغلاها في مشاريعهم السياحية أو للاستقرار فيها بشكل نهائي. وأكد بعض سكان الحي البرتغالي أنهم استبشروا خيرا بمبادرة أشغال الترميم التي كانت السلطات المحلية قد بدأتها في فضاءات الحي البرتغالي، وراهنوا على إمكانية إعطائها دفعة جديدة للحي، إلا أنهم فوجئوا بتوقفها دون أن يعرفوا الأسباب.. وكانت ساكنة الحي قد منّت النفس واعتقدت أنّ تلك الترميمات ستشمل واجهات منازلهم بالنظر إلى كون أغلب ساكنة الحي هم من بسطاء القوم. الحي البرتغالي والجاذبية السياحية أكد بعض السياح الذين استقت «المساء» ارتساماتهم أثناء إجراء هذا الروبورتاج، إعجابهم بالحي البرتغالي وفضاءاته، لكنهم أجمعوا -في المقابل- عن كونه لا يتوفر على عناصر الجاذبية التي تجعل الزائرَ يقضي وقتا طويلا بداخله ، نظرا لمحدودية الفضاءات التي يمكن زيارتها في وقت وجيز. وقال بعض الزوار إنّ الفضاءات والأسوار تحتاج إلى مزيد من العناية والترميم، وهو ما ذهب إليه أبو القاسم الشبري، مندوب «يونسكو» لتدبير الحي البرتغالي كتراث عالمي، الذي أكد أنّ الحي يعرف ترميمات هامّة منذ 1994 إلى اليوم، لكنه في حاجة إلى رؤية واضحة للتأهيل وليس إلى لترميمات معزولة.. وقال إنّ الاستغلال الأمثل يبدأ بتنصيب مجلس التدبير (ترأسه السلطة المحلية ومقرره هو مركز التراث المغربي البرتغالي). في انتظار ذلك، لا بد من إشراك كل الفرقاء في أي عملية ترميم صغيرة أو كبيرة.. «وأملي هو التقليص الطفيف من الكثافة السكانية داخل الحي، ثم ترميم المعالم التراثية والبنايات العمومية والخاصة وشبكة التطهير وإعادة إحياء بعض الحرف في الحي وخلق مسارات سياحية داخله وإعادة توظيف عدد من البنايات والأبراج في مشاريع ثقافية وسوسيو -ثقافية وتجارية، لنعطي للإنقاذ والتأهيل الدلالة الحقيقية والمستديمة ليحيى الحي بساكنته الحاملة لثقافتها الأنثربولوجية المميزة». عزلة وسوء توظيف للفضاءات «يشكو الحي من نواقص كثيرة على مستوى بنياته، نتيجة غياب التنسيق بين جل الفعاليات ذات الاهتمام المشترَك».. عبارة حاول من خلالها إبراهيم القلعي، رئيس جمعية الحي البرتغالي المهتمة بالأساس بأنشطة الحي، منذ تأسيسها سنة 1999، وأضاف القليعي أنّ الإرادة تنتفي لدى بعض من يتحمّلون مسؤولية تسيير شأن المدينة والمسؤولين، الذين يُفترَض فيهم تكثيف الجهود مع جميع المُتدخّلين، كلٌّ من موقعه، لوضع مخطط عمل محدّد في الزّمن ودقيق الأهداف. وقال القلعي، أيضا، إنّ ساكنة الحي البرتغالي توجد اليوم في موقع المتفرّج أمام ما يدور حولها، والشيء نفسه بالنسبة إلى الفاعلين الجمعويين والطامحين إلى ممارسة الفعل الثقافي، الذين تعترض مشاريعهم جملة من العراقيل، تتجلى أغلبها في انعدام الإمكانيات وشحّ الجهات المانحة. وقد قامت جمعية الحي البرتغالي بمبادرات مختلفة، رغبة منها في خلق نوع من الحركية والدينامية داخل الحي ودروبه، وفتحت أوراشا لمحاربة الأمية وتقديم دروس التقوية والدّعم في الحي وتعليم الموسيقى واللغة الفرنسية، إلى جانب مبادرات خيرية وإنسانية واحتضان معارض تشكيلية وفنية.. لكنها مبادرات تبقى محدودة وغير كافية، ولا تستمرّ لأسباب مختلفة، وعلى رأسها محدودية الدعم المادي المُقدَّم للجمعية . إنّ المتجول في أرجاء الحي البرتغالي سيكتشف -لا محالة- عزلة بعض الفضاءات التاريخية وسيلاحظ «الإهمال» الذي تعرّضتْ له، بل إن بعضَها تحول إلى مرتع للمنحرفين والباحثين عن «مخابئ».. كما أنّ عددا من أركان الحي البرتغالي تغزوها الأعشاب الطفيلية التي تشوه جمالية بعض الفضاءات وجنبات الأسوار.. بينما هناك فضاءات أخرى يستغلها بعض الفنانين منذ سنوات، في إطار الترخيصات التي تمنحها مندوبية وزارة الثقافة للفنانين من حاملي المشاريع الفنية والثقافية، شريطة أن تشتغل داخل تلك الفضاءات وأن تعود الأشغال الجارية بداخلها بالنفع على ساكنة الحي والمنطقة ككل.. لكنّ الملاحظ هو أن هناك بعض الفضاءات «المحتلة» منذ سنوات، إلى أن أصبحت خارج المدار السياحي للحي، لكونها ظلت مغلقة دون أن يقدم «محتلوها» أي إضافات تذكر، إذ أكد بعض السكان المجاورين أنّ أحد المعابد اليهودية أصبح مغلقا منذ سنوات دون أن يقدم أي إضافات فنية أو ثقافية للحي وزواره.. كما بات الحي البرتغالي -أو «الملاح»- أيضا هدفا للباحثين عن الكنوز والنفائس، إذ شهد الحي حالات متكررة لتخريب معالمه من طرف الباحثين عن الكنوز، وهي العمليات التي تخلف حفرا عميقة أحيانا تشوه مَعالمَه. كما شهد الحي البرتغالي، قبل شهور قليلة، حادث اختفاء بعض القطع الحجرية المنحوتة من أحد الأبراج، وتعرّض أحد الأبواب، يُعرَف ب»بابْ دُوزْ»، للتخريب كذلك، نتيجة عمليات حفر للباحثين عن الكنوز، دون أن تفتح السلطات المعنية تحقيقا جديا في عمليات التخريب تلك، التي استنكرها سكان الحي وكذا المهتمون بالتراث التاريخي في الحي البرتغالي. كما شهدت عدد من الدور التي تعود ملكيتها إلى أجانب عمليات سرقة، خاصة تلك القريبة من السور الضّخم المحيط بالقلعة البرتغالية. وأكد سكان الحي الذين التقتهم «المساء» أنّ هناك عددا لا يُستهان به من الدور الآيلة للسقوط، التي لا يتوفر أصحابها على إمكانيات إصلاحها، ويتعايشون مع شقوقها إلى حين. ويفتقر الحي البرتغالي، كذلك، إلى فضاءات لممارسة الموسيقى والرسم والرياضة.. ما يجعل أبناءه يعيشون حالة من العطالة والرّكود الدائمين... التصنيف العالمي المشروط؟ تم إدراج «الحي البرتغالي» ضمن لائحة التراث العالمي يوم 30 يونيو من سنة 2004، من طرف منظمة «يونسكو»، خلال دورة «سوزهو» في الصين، بعد مخاض عسير وبعد سنوات من التتبع والترصّد لهذا التراث العالمي.. ففي سنة 2002 أجرت منظمة «يونسكو» دراسة شاملة لملفّ الحي البرتغالي أثنت من خلاله على الجانب العلمي والتقني في ملف الترشيح، إلا أنها أرجأت مسألة التصنيف إلى وقت آخر، بعد أن «سجّل موفد «يونسكو» إلى مدينة الجديدة سنة 2011 أنّ هناك جهات أساسية غير منخرطة في ملف التصنيف ولا تكترث لوضعية الحي البرتغالي، الذي كان يعاني آنذاك من نقص مهول في التجهيزات الأساسية على جميع المستويات»، كما يؤكد ذلك المتخصص أبو القاسم الشبري. ولم يتمّ الإعلان عن تصنيفه ضمن التراث العالمي سنة 2004 إلا بعد تقديم ضمانات وبعد انخراط جدّي للسلطات المحلية. كما اشترطت إنجاز تصميم تدبير الحي البرتغالي ومخطط الإنقاذ وإحداث مجلس تدبير الحي، وهذا الأمر بالذات ما زال معلقا. وفي غياب تأسيس مجلس تدبير لهذا التراث العالمي ستبقى المشاكل التي يتخبط فيها الحي البرتغالي معلقة على مشاجب متعدّدة، وموزّعة بين «قبائل» جميع المسؤولين إلى وقت لاحق، وستبقى الرؤية الموحَّدة لتأهيل الحي ومحيطه (ساحة الحنصالي، الميناء، وجزء من سيدي الضاوي) مُغيَّبة، وستبقى القرارات والمبادرات المتخذة داخل الحي جزءا آخر من اختلالات تدبير الحي البرتغالي . مازاغان.. أي مستقبل تماهتْ آراء عدد ممن التقتهم «المساء» داخل الحي البرتغالي مع رأي كل من رئيس جمعية الحي البرتغالي إبراهيم القليعي وأبو القاسم الشبري، مندوب «يونسكو» لتدبير الحي البرتغالي كثرات عالمي، الذين أكدوا أنّ الحي البرتغالي، رغم استقباله عدداً لا بأس به من السياح الأجانب والزوار، ورغم أنه عرف ويعرف ترميمات وُصِفت بالهامة منذ سنة 1994 إلى اليوم، فإنه ما زال لم يأخذ حقه من التأهيل والاهتمام من طرف الجهات المعنية، مُجمعين على ضرورة تأسيس مجلس قانونيّ لتدبير شؤونه وتحمُّل مسؤولية ما يقع بداخله، عبر إشراك جميع الفرقاء والفاعلين في عمليات الترميم التي تطال الحي وأسواره و قلاعه من حين إلى آخر. كما أجمع من تحدّثت إليهم الجريدة على ضرورة إعادة النظر في مسألة الجاذبية داخل الحي البرتغالي، وضرورة الارتقاء بفضاءاته إلى المستوى الذي بإمكانه أن يشدّ الزوار لساعات طويلة بداخله، مقترحين «إحياءَ» بعض الحرف التقليدية وإنعاش أزقته ودروبه. كما يتطلع المُتحدّثون إلى الجريدة إلى جعل الحي البرتغالي فضاء حيّا للأنشطة الإبداعية وللعروض الفنية والثقافية المتنوعة، ولِمَ لا كراء بعض الفضاءات لممارسة أنشطة مدرّة للدخل تعود على ساكنة الحي بالنفع.. والتي يمكنها أن تستمر على طول السنة، وبإمكانها أن تبثّ الرّوح في عدد من الفضاءات التي تحولت إلى فضاءات شبه ميتة، إذا لم نقل ميتة..