تابع أكثر من مليار شخص عبر العالم وباهتمام كبير مراسيم حفل تنصيب أوباما كرئيس جديد للولايات المتحدة، كما شارك مليونا أمريكي في حفل أداء القسم الذي استضافته منطقة «ناشيونال مول» بالعاصمة واشنطن، والذي اعتبره مراقبون مناسبة ضخمة استعرضت فيها أمريكا عضلاتها الديمقراطية أمام العالم. «فقط في أمريكا، يمكن أن يحصل مثل هذا الأمر، فقط في هذه البلاد»، هكذا عبرت سيدة عجوز تكاد لا تقوى على التحرك من مكانها ولا حتى على مقاومة موجة البرد الشديدة التي شهدتها العاصمة واشنطن يوم الثلاثاء الماضي الذي تم فيه تنصيب أوباما كرئيس 44 للولايات المتحدة. تلك السيدة قالت بصوت ضعيف لمراسلة شبكة CNN في واشنطن إن الحفل الذي تزاحم مئات الآلاف من الأشخاص لحضوره لا يشبه أيا من حفلات تنصيب الرؤساء الأمريكيين السابقة لأنه حمل أول رئيس أسود إلى كرسي الرئاسة، ولأنه أيضا كان مناسبة كي يفتخر فيها الأمريكيون بنظامهم الديمقراطي. حفل تاريخي حتى درجات الحرارة التي كانت قابعة تحت الصفر يوم الثلاثاء الماضي لم تمنع مئات الآلاف من الأمريكيين والمهاجرين المقيمين داخل أمريكا من قطع مئات الكيلومترات والحضور إلى منطقة «ناشيونال مول» لحضور حفل تنصيب أوباما. الآلاف من هؤلاء الذين قدموا من ولايات بعيدة «تسلحوا» بسخانات القهوة والشاي وبسندويتشات الجبن والديك الرومي وأغطية دافئة خفيفة الوزن ووقفوا طويلا في صفوف لا متناهية من أجل عبور نقط تفتيش متعددة والوصول إلى المكان الذي سيتابعون فيه تفاصيل الحفل عبر شاشات عملاقة. ورغم حضور أناس من مختلف الألوان والأعراق والطبقات الاجتماعية، فإن الأمريكيين السود تميزوا عن الباقي بفرحتهم العارمة ومشاعرهم الجياشة التي دفعتهم إلى ذرف الكثير من الدموع ثم الانخراط في نوبات رقص متواصلة ينهونها بصرخات عالية تتخللها كلمات من قبيل «History» يلتفتون بعدها إلى الواقفين إلى جنبهم لمعانقتهم أو تقبيلهم أو رفعهم على الأكتاف! فرحة الأمريكيين السود كانت واضحة من خلال تصريحات المئات منهم لوسائل الإعلام الأمريكية التي جندت فرق مراسليها لتغطية الحدث الهام، حيث قالوا إنهم لم يعتقدوا أبدا بأنهم سيعيشون حتى يروا اليوم الذي يتسلم فيه رئيس أسود مفاتيح البيت الأبيض. وهكذا قال رجل خمسيني لقناةMSNBC : «منذ قام الآباء المؤسسون بوضع أسس الدستور الذي ينظم العمل السياسي في هذه البلاد، تم انتخاب 43 رئيسا أبيض وهذا هو الرئيس ال44 للولايات المتحدة لكنه الأول من أصول إفريقية... هذا وقتنا ولهذا نحن نشعر بشيء ما يضغط هنا»، ووضع الرجل يده على قلبه وضرب مرات متتالية قبل أن يشيح بوجهه عن الكاميرا لمسح بعض الدموع التي لم تطاوعه وانهمرت على خديه، فرحا وحزنا للمناسبة في الوقت نفسه. كما أن ضخامة الحفل، سواء من حيث عدد المشاركين فيه أو من حيث الاحتياطات الأمنية التي اتخذتها السلطات لتنظيمه أو حتى ميزانيته، جعلت منه حفلا تاريخيا بامتياز. وأعرب الكثير من الأمريكيين عن أملهم في أن يشكل الحفل بداية لمرحلة جديدة تتصالح فيها أمريكا مع ماضيها «غير الشريف» وتمد يدها إلى باقي دول العالم من أجل الخروج من المستنقع الذي أوقعها فيه الرئيس السابق جورج بوش الابن. استعراض ديمقراطي المشاعر الجياشة للأمريكيين خلال حفل تنصيب الرئيس الجديد وأيضا خلال اليومين الأولين من حكم باراك أوباما، لم تغط أبدا على الاهتمام الشديد بالنظام الديمقراطي الأمريكي الذي سمح لابن مهاجر كيني مسلم ومعدم أن يحكم دولة ذات غالبية مسيحية وتقود العالم في المجالات السياسية والتكنولوجية والعسكرية والاقتصادية. فأكثر الكلمات التي تداولتها الصحف وشبكات الأخبار والقنوات الإذاعية المتعددة كانت هي «الانتقال السلمي للسلطة» و«الديمقراطية الأمريكية». وهكذا حرصت أمريكا على استعراض عضلاتها الديمقراطية قبيل وخلال وبعد حفل تنصيب باراك أوباما، من خلال إبراز تفاصيل البروتوكول الذي ينظم عملية انتقال السلطة بين رئيسين ينتميان إلى حزبين «يتقاتلان» كثيرا للفوز بالانتخابات، لكن ما أن يتم إعلان النتائج بشكل رسمي حتى يخبو غبار المنافسة ويتم القبول بالنتيجة التي اختارها الشعب. وركزت وسائل الإعلام كثيرا على العادة التي أصبحت رمزا من رموز النظام الديمقراطي الأمريكي، وهي زيارة الرئيس المنتخب للرئيس المنتهية ولايته في البيت الأبيض والخروج معا لتحية الجماهير قبل ركوب سيارات الليموزين التي تقل كل واحد منهما مع زوجته إلى حفل التنصيب. وهذا ما حصل صباح الثلاثاء الماضي، حين حملت ميشيل أوباما هدية رمزية (دفتر لتدوين المذكرات وقلم منقوش عليه تاريخ 20 يناير 2009) وتوجهت إلى البيت الأبيض رفقة زوجها باراك أوباما لشرب القهوة مع جورج بوش الابن وزوجته لورا بوش، ونائبه ديك تشيني وزوجته لين تشيني، وجو بايدن وزوجته جيل بايدن. الجميع التقطوا صورا تذكارية أمام مدخل البيت الأبيض وتبادلوا السلام والابتسام، قبل أن يتوجه كل زوج على حدة إلى سيارات الليموزين التي أقلتهم بشكل منفصل إلى مقر الكونغرس، وذلك حسب قواعد بروتوكولية مدروسة من حيث الجهة التي سيركب كل واحد منهم السيارة الفارهة التي يسميها الأمريكيون «الوحش»!. حتى لحظة أداء أوباما القسم الدستورية كرئيس للولايات المتحدة، تحولت إلى رمز ديمقراطي بالغ الدلالة. فرئيس المحكمة الدستورية العليا القاضي «ديفيد سواتر»، الذي تكلف بمهمة ترديد القسم أمام أوباما، كان قد عين من قبل الرئيس السابق جورج بوش الابن فيما صوت ضده باراك أوباما عندما كان عضوا بمجلس الشيوخ بسبب آرائه المحافظة جدا، لكن القدر جعل الرجلين يتقابلان من جديد في لحظة هي الأهم في حياة كل منهما، حتى إن الكثيرين ربطوا بين هذا الأمر ومسألة التلعثم التي حدثت لأوباما خلال أداء القسم، إلا أن خبيرا في الشؤون الدستورية قال لإذاعة NPR إن القاضي «سواتر» أخطأ في ترتيب الكلمات التي يبدو أن أوباما كان يحفظها عن ظهر قلب، مما دفعه إلى التردد والصمت بعض الوقت كي يمنح القاضي فرصة لتصحيح ترتيب الجملة! احتفاء إعلامي وحرصت وسائل الإعلام على إبراز صورة جماعية للرؤساء الأمريكيين السابقين الذين مازالوا على قيد الحياة وزوجاتهم (جيمي كارتر وجورج بوش الأب وبيل كلينتون، وانضم إليهم جورج بوش الابن بعد أداء أوباما للقسم) عندما اصطفوا جميعا للسلام على الرئيس الجديد باراك أوباما، في مشهد نادر قد لا يحدث سوى في أمريكا التي يمنع دستورها الترشح لأكثر من فترتين رئاسيتين طول كل واحدة منهما لا يتعدى أربع سنوات! كما حرصت وسائل الإعلام على نقل مراسيم توديع الرئيس الجديد باراك أوباما لسلفه جورج بوش الابن مباشرة بعد انتهاء أوباما من أداء القسم. حيث قام الأخير مرفوقا بزوجته ونائبه جو بايدن وزوجته لين بمرافقة جورج بوش الابن إلى ساحة خلفية لمبنى الكونغرس، وهو المكان الذي كانت تقبع فيه طائرة مروحية تكلفت بنقل بوش وزوجته إلى مطار أندروز تمهيدا لسفره بالطائرة إلى ولاية تكساس حيث سيتقاعد ويمضي بقية حياته بعيدا عن الأضواء. وشدد المحللون على أهمية قيام أي رئيس أمريكي جديد بتلك الخطوات البروتوكولية مهما بلغت درجة اختلافه مع الرئيس المنصرف، حتى لو كان أسوأ رئيس في تاريخ البلاد مثل بوش الابن الذي أنهى فترته الرئاسية الثانية كأكثر رئيس يكرهه الشعب الأمريكي وأقلهم دعما في التاريخ الأمريكي القصير! كما خلص الكثير من المراقبين إلى أن حفل تنصيب أوباما كرئيس جديد للولايات المتحدة كان مناسبة تاريخية استعرضت فيها أمريكا نظامها الديمقراطي وأبهرت العالم بسلاسة انتقال السلطة داخلها من يد حزب جمهوري دمر سمعتها الخارجية إلى يد حزب ديمقراطي يعقد عليه الأمريكيون والعالم آمالا لا تحصى، ويقوده رجل دخل التاريخ وجعل من لون بشرته وأصوله المتواضعة حافزا لإلهام الملايين من الناس حول العالم، فهل يكون أوباما في مستوى التطلعات؟